الله سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض ومبدعهما بقدرته ومشيئته وحكمته، جعل لكم من أنفسكم أزواجًا؛ لتسكنوا إليها، وجعل لكم من الأنعام أزواجًا ذكورًا وإناثًا، يكثركم بسببه بالتوالد، ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ لأن أسماءه كلَّها حسنى، وصفاتِه صفات كمال وعظمة، وأفعالَه تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، وهو السميع البصير، لا يخفى عليه مِن أعمال خلقه وأقوالهم شيء، وسيجازيهم على ذلك.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«فاطر السماوات والأرض» مبدعهما «جعل لكم من أنفسكم أزواجاً» حيث خلق حواء من ضلع آدم «ومن الأنعام أزواجاً» ذكوراً وإناثاً «يذرؤكم» بالمعجمة بخلقكم «فيه» في الجعل المذكور، أي يكثركم بسببه بالتوالد والضمير للأناسي والأنعام بالتغليب «ليس كمثله شيء» الكاف زائدة لأنه تعالى لا مثل له «وهو السميع» لما يقال «البصير» لما يفعل.
﴿ تفسير السعدي ﴾
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته. جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لتسكنوا إليها، وتنتشر منكم الذرية، ويحصل لكم من النفع ما يحصل. وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا أي: ومن جميع أصنافها نوعين، ذكرا وأنثى، لتبقى وتنمو لمنافعكم الكثيرة، ولهذا عداها باللام الدالة على التعليل، أي: جعل ذلك لأجلكم، ولأجل النعمة عليكم، ولهذا قال: يذرؤكم فيه أي: يبثكم ويكثركم ويكثر مواشيكم، بسبب أن جعل لكم من أنفسكم، وجعل لكم من الأنعام أزواجا. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفة كمال وعظمة، وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه. وَهُوَ السَّمِيعُ لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات. الْبَصِيرُ يرى دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، ويرى سريان القوت في أعضاء الحيوانات الصغيرة جدا، وسريان الماء في الأغصان الدقيقة.وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المشبهة في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وعلى المعطلة في قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
﴿ تفسير البغوي ﴾
( فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) من مثل خلقكم حلائل ، قيل : إنما قال " من أنفسكم " لأنه خلق حواء من ضلع آدم . ( ومن الأنعام أزواجا ) أصنافا ذكورا وإناثا ، ( يذرؤكم ) يخلقكم ، ( فيه ) أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : على هذا الوجه من الخلقة . قال مجاهد : نسلا بعد نسل من الناس والأنعام . وقيل : " في " بمعنى الباء ، أي : يذرؤكم به . وقيل : معناه يكثركم بالتزويج . ( ليس كمثله شيء ) " مثل " صلة ، أي : ليس هو كشيء ، فأدخل المثل للتوكيد كقوله : " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " ( البقرة - 137 ) ، وقيل : الكاف صلة ، مجازه : ليس مثله شيء . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس له نظير . ( وهو السميع البصير ) .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى هو خالقهما وموجدهما على غير مثال سابق، من فطر الشيء إذا ابتدعه واخترعه دون أن يسبق إلى ذلك.جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أى: جعل لكم- سبحانه- بقدرته من جنس أنفسكم أزواجا، أى: نساء تجمع بينكم وبينهن المودة والرحمة، كما قال- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.وقوله- سبحانه-: وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً معطوف على ما قبله. أى: كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا، خلق- أيضا- للأنعام من جنسها إناثا، ليحصل التوالد والتناسل والتعمير لهذا الكون.وقوله- تعالى- يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ بيان للحكمة من هذا الجعل والخلق للأزواج.والذرء: التكاثر والبث. يقال: ذرأ فلان الشيء، إذا بثه وكثره.والضمير المنصوب في قوله يَذْرَؤُكُمْ يعود إلى المخاطبين وإلى الأنعام، على سبيل التغليب للعقلاء على غيرهم.والضمير في قوله فِيهِ يعود إلى التزاوج بين الذكور والإناث المفهوم من قوله- تعالى-: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً.أى: يكثركم وينميكم بسبب هذا التزاوج الذي يحصل بين ذكوركم وإناثكم حيث يتناسل- أحيانا- بين الذكر الواحد والأنثى الواحدة، عدد كبير من الأولاد.وقال- سبحانه- يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ولم يقل يذرؤكم به أى: بسببه، للأشعار بأن هذا التزاوج قد صار مثل المنبع والأصل للبث والتكثير.قال- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.قال بعض العلماء: فإن قيل: ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ مع أنه على ما ذكرتم، يعود إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام؟.فالجواب: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، رجوع الضمير بصيغة الإفراد إلى المثنى أو الجمع باعتبار ما ذكر.ومنه قوله- تعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أى: يأتيكم بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم .ثم نزه- سبحانه- ذاته عن الشبيه أو النظير.. فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.أى: ليس مثله شيء- تعالى-: لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فالكاف مزيدة في خبر لَيْسَ وشَيْءٌ اسمها. أى: ليس شيء مثله.أو أن الكاف أصلية. فيكون المعنى: ليس مثله- تعالى- أحد لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال.وذلك كقول العرب: مثلك لا يبخل، يعنون: أنت لا تبخل على سبيل الكناية، قصدا إلى المبالغة في نفى البخل عن المخاطب بنفيه عن مثله، فيثبت انتفاؤه عنه بدليله.والمقصود من الجملة الكريمة على كل تفسير: تنزيهه- تعالى- عن مشابهة خلقه في الذات أو الصفات أو الأفعال.قال صاحب الكشاف: قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده، وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه.ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر...وقوله- تعالى-: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أى: وهو- سبحانه- السميع لكل أقوال خلقه، البصير بما يسرونه وما يعلنونه من أفعال.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله : ( فاطر السموات والأرض ) أي : خالقهما وما بينهما ، ( جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) أي : من جنسكم وشكلكم ، منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى ، ( ومن الأنعام أزواجا ) أي : وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج .وقوله : ( يذرؤكم فيه ) أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا ، خلقا من بعد خلق ، وجيلا بعد جيل ، ونسلا بعد نسل ، من الناس والأنعام .وقال البغوي رحمه الله : ( يذرؤكم فيه ) أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقيل : في هذا الوجه من الخلقة .قال مجاهد : ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام .وقيل : " في " بمعنى " الباء " ، أي : يذرؤكم به .( ليس كمثله شيء ) أي : ليس كخالق الأزواج كلها شيء ; لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، ( وهو السميع البصير )
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .قوله تعالى : فاطر السماوات والأرض بالرفع على النعت لاسم الله ، أو على تقدير هو فاطر . ويجوز النصب على النداء ، والجر على البدل من الهاء في ( عليه ) ، والفاطر : المبدع والخالق . وقد تقدم .جعل لكم من أنفسكم أزواجا قيل معناه إناثا . وإنما قال : من أنفسكم لأنه خلق حواء من ضلع آدم . وقال مجاهد : نسلا بعد نسل . ومن الأنعام أزواجا يعني الثمانية التي ذكرها في ( الأنعام ) ذكور الإبل والبقر والضأن والمعز وإناثها . يذرؤكم فيه أي يخلقكم وينشئكم فيه أي : في الرحم . وقيل : في البطن . وقال الفراء وابن كيسان : ( فيه ) بمعنى به . وكذلك قال الزجاج : معنى ( يذرؤكم فيه ) يكثركم به ، أي : يكثركم يجعلكم أزواجا ، أي : حلائل ، لأنهن سبب النسل . وقيل : إن الهاء في ( فيه ) للجعل ، ودل عليه ( جعل ) ، فكأنه قال : يخلقكم ويكثركم في الجعل . ابن قتيبة : يذرؤكم فيه أي : في الزوج ، أي : يخلقكم في بطون الإناث . وقال : ويكون ( فيه ) في الرحم ، وفيه بعد ; لأن الرحم مؤنثة ولم يتقدم لها ذكر . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قيل : إن الكاف زائدة للتوكيد ، أي : ليس مثله شيء . قال :وصاليات ككما يؤثفينفأدخل على الكاف كافا تأكيدا للتشبيه . وقيل : المثل زائدة للتوكيد ، وهو قول ثعلب : ليس كهو شيء ، نحو قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا . وفي حرف ابن مسعود ( فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا ) قال أوس بن حجر :وقتلى كمثل جذوع الن خيل يغشاهم مطر منهمرأي : كجذوع . والذي يعتقد في هذا الباب أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعلي صفاته ، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبه به ، وإنما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق ، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي ، إذ صفات القديم - جل وعز - بخلاف صفات المخلوق ، إذ صفاتهم لا تنفك عن الأغراض والأعراض ، وهو تعالى منزه عن ذلك ، بل لم يزل بأسمائه وبصفاته على ما بيناه في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) ، وكفى في هذا قوله الحق : ( ليس كمثله شيء ) وقد قال بعض العلماء المحققين : التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطلة من الصفات . وزاد الواسطي رحمه الله بيانا فقال : ليس كذاته ذات ، ولا كاسمه اسم ، ولا كفعله فعل ، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ ، وجلت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة ، كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة . وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة . - رضي الله عنهم!
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)يقول تعالى ذكره: ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) , خالق السموات السبع والأرض. كما:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال: خالق.وقوله: ( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) يقول تعالى ذكره: زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجا. وإنما قال جلّ ثناؤه: ( مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم, فهو من الرجال.( وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا ) يقول جلّ ثناؤه: وجعل لكم من الأنعام أزواجا من الضأن اثنين, ومن المعز اثنين, ومن الإبل اثنين, ومن البقر اثنين, ذكورا وإناثا, ومن كل جنس من ذلك.( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) يقول: يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم, ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام. وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) في هذا الموضع, فقال بعضهم: معنى ذلك: يخلقكم فيه.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيع, عن مجاهد, في قوله: ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال: نسل بعد نسل من الناس والأنعام.حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( يَذْرَؤُكُمْ ) قال: يخلقكم.حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله: ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال: نسلا بعد نسل من الناس والأنعام.حدثنا محمد بن المثنى ، قال: ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن منصور ، أنه قال في هذه الآية : ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال يخلقكم.وقال آخرون: بل معناه: يعيشكم فيه.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها.حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال: يعيشكم فيه.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) قال: عيش من الله يعيشكم فيه. وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد, وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه, أراد بقوله ذلك: يحييكم بعيشكم به كما يحيي من لم يخلق بتكوينه إياه, ونفخه الروح فيه حتى يعيش حيا. وقد بينت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته.وقوله: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء, وأدخل المثل في الكلام توكيدًا للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف, وهما بمعنى واحد, كما قيل:ما إن نديت بشيء أنت تكرهه (1)فأدخل على " ما " وهي حرف جحد " إن " وهي أيضًا حرف جحد, لاختلاف اللفظ بهما, وإن اتفق معناهما توكيدا للكلام, وكما قال أوس بن حجر:وَقَتْلَى كمِثْلِ جذُوعِ النَّخيلْتَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ (2)ومعنى ذلك: كجذوع النخيل, وكما قال الآخر:سَعْدُ بْنُ زيد إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُما إن كمِثْلِهِمِ فِي النَّاسِ مِنْ أحَدٍ (3)والآخر: أن يكون معناه: ليس مثل شيء, وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام, كقول الراجز:* وَصَالِياتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ (4)فأدخل على الكاف كافا توكيدا للتشبيه, وكما قال الآخر:تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطَّرِيقِقَلَّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ (5)فأدخل الكاف مع " عن ", وقد بيَّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح, فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع.وقوله: ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه بما هو به, وهو يعني نفسه: السميع لما تنطق به خلقه من قول, البصير لأعمالهم, لا يخفى عليه من ذلك شيء, ولا يعزب عنه علم شيء منه, وهو محيط بجميعه, محصٍ صغيره وكبيره ( لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) من خير أو شرّ.------------------------الهوامش:(1) هذا مصراع أول من بيت للنابغة الذبياني . وعجزه :* إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي *( انظر مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ) ورواية الشطر الأول فيه :* ما قلت من سييء مما أتيت به *قال شارحه : يقول : إذا كنت قلت هذا الذي بلغك ، فشلت يدي حتى لا أطيق رفع السوط على خفته . وروى في اللسان والتاج كرواية المؤلف ، قال الزبيدي : يقال : ما نديني من فلان شيء أكرهه ، أي ما بلني ولا أصابني . وما نديت له كفى بشر وما نديت بشيء .ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف قوله" ما إن" حيث أدخل حرف النفي" ما" على حرف النفي" إن" لاختلاف لفظهما ، توكيدا للكلام . وهو نظير إدخال كاف التشبيه ، على كلمة" مثل" التي تفيد التشبيه ، في قوله تعالى (ليس كمثله شيء) ، لتوكيد الكلام ؛ لاختلاف اللفظين .(2) وهذا الشاهد من كلام أوس بن حجر التميمي ، وهو شاعر جاهلي مشهور ، شاهد كالشاهد السابق ، أدل فيه أداة التشبيه" الكاف" على أختها في المعنى" مثل" لاختلاف لفظهما ، توكيدا للكلام ، وهو نظير" ما" في قوله تعالى : (ليس كمثله شيء ) .(3) لم أقف على قائل هذا البيت . وقد استشهد به المؤلف على إدخال أداتي التشبيه ( الكاف ، ومثل ) معا على شيء واحد ، فهو في معنى الشاهدين قبله .(4) هذا بيت من عدة أبيات من مشطور الرجز ، ينسبان على خطام المجاشعي ، ونسبهما الجوهري في الصحاح ، والصقلي في شرحه لأبيات الإيضاح للفارسي ، إلى هميان بن قحافة . وبيت الشاهد آخرها بيتا . ( انظر الأبيات في هامش صفحة 282 من الجزء الأول من سر صناعة الإعراب لابن جنى طبعة شركة مصطفى البابي الحبي وأولاده ) وفيه : الصاليات : الأثافي التي توضع عليها القدور وقد صليت النار حتى اسودت . ويؤثفين : يجعلن أثافي للقدر ، وهي جمع أثفية ، يقال أثفى القدر يثفيها : جعل لها أثافي . ومحل الشاهد قوله" كما" فإن الكاف الأولى حرف ، والثانية اسم بمعنى مثل . والمعنى : لم يبق إلا حجارة منصوبة كمثل الأثافي . واستشهد به المؤلف على دخول الكاف على الكاف لتوكيد الكلام.(5) لم أقف على قائل البيت . ولم يتضح لي معناه تماما ، ولعل فيه تحريفا من الناسخ . وموضع الشاهد فيه واضح ، وهو دخول" عن" على الكاف في قوله"كبيضة" فإما أن تكون الكاف زائدة ، أي عن بيضة ، وإما أن تكون الكاف اسما بمعنى مثل في محل جر .
﴿ فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾