﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد عن الباطل وتهجينه، بأقرب طريق موصل لذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، إلا من ظلم من أهل الكتاب، بأن ظهر من قصده وحاله، أنه لا إرادة له في الحق، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة، فهذا لا فائدة في جداله، لأن المقصود منها ضائع. وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ أي: ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم، وعلى أن الإله واحد، ولا تكن مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به القدح في شيء من الكتب الإلهية، أو بأحد من الرسل، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم، يقدح بجميع ما معهم، من حق وباطل، فهذا ظلم، وخروج عن الواجب وآداب النظر، فإن الواجب، أن يرد ما مع الخصم من الباطل، ويقبل ما معه من الحق، ولا يرد الحق لأجل قوله، ولو كان كافرا. وأيضا، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب، على هذا الطريق، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن، وبالرسول الذي جاء به، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب، وتقررت عند المتناظرين، وثبتت حقائقها عندهما، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها، والرسل كلهم، وهذا من خصائص الإسلام.فأما أن يقال: نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني، دون الكتاب الفلاني وهو الحق الذي صدق ما قبله، فهذا ظلم وجور، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب، لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها، المصدق لما بين يديه من التوراة، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن.وأيضا، فإن كل طريق تثبت به نبوة أي: نبي كان، فإن مثلها وأعظم منها، دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإن مثلها أو أعظم منها، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره، فإذا ثبت بطلانها في غيره، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر.وقوله: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي: منقادون مستسلمون لأمره. ومن آمن به، واتخذه إلها، وآمن بجميع كتبه ورسله، وانقاد للّه واتبع رسله، فهو السعيد، ومن انحرف عن هذا الطريق، فهو الشقي.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
والمجادلة: المخاصمة. يقال: جادل فلان فلانا، إذا خاصمه، وحرص كل واحد منهما على أن يغلب صاحبه بقوة حجته. أى: ولا تجادلوا- أيها المؤمنون- غيركم من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، إلا بالطريقة التي هي أحسن، بأن ترشدوهم إلى طريق الحق بأسلوب لين كريم، كما قال- تعالى- في آية أخرى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. .وقوله: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ استثناء من الذين يجادلون بالتي هي أحسن.أى: ناقشوهم وأرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم. بأن أساءوا إليكم، ولم يستعملوا الأدب في جدالهم، فقابلوهم بما يليق بحالهم من الإغلاظ والتأديب.وعلى هذا التفسير يكون المقصود بالآية الكريمة، دعوة المؤمنين إلى استعمال الطريقة الحسنى في مجادلتهم لأهل الكتاب عموما، ما عدا الظالمين منهم فعلى المؤمنين أن يعاملوهم بالأسلوب المناسب لردعهم وزجرهم وتأديبهم.وقيل: المراد بأهل الكتاب هنا: المؤمنون منهم، والمراد بالذين ظلموا: من بقي على الكفر منهم.فيكون المعنى: ولا تجادلوا- أيها المؤمنون- من آمن من أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين بقوا على كفرهم فعاملوهم بما يليق بحالهم من التأديب والإغلاظ عليهم.ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأرجح والأظهر، لأن الآية مسوقة لتعليم المؤمنين كيف يجادلون من بقي على دينه من أهل الكتاب، ولأن من ترك كفره منهم ودخل في الإسلام أصبح مسلما وليس من أهل الكتاب، وما دام الأمر كذلك فليس المسلمون في حاجة إلى إرشادهم إلى كيفية مجادلته، ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ... يرجح أن المراد بأهل الكتاب هنا من بقي على دينه منهم.أى: جادلوهم بالطريقة الحسنى ماداموا لم يظلموكم، وقولوا لهم على سبيل التعليم والإرشاد «آمنا بالذي أنزل إلينا» وهو القرآن، وآمنا بالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل.قال الشوكانى: أى: آمنا بأنهما منزلان من عند الله، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية، والبعثة المحمدية ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه، .وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته وَنَحْنُ جميعا معاشر المؤمنين لَهُ مُسْلِمُونَ أى: مطيعون وعابدون له وحده، ولا نتخذ أربابا من دونه- عز وجل-.قال القرطبي ما ملخصه: اختلف العلماء في قوله- تعالى-: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ.. فقال مجاهد: هي محكمة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، على معنى الدعاء لهم إلى الله- عز وجل-، والتنبيه على حججه وآياته ... وقوله: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أى ظلموكم..وقيل: هذه الآية منسوخة بآية القتال وهي قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...وقول مجاهد: حسن، لأن أحكام الله- عز وجل- لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر، أو حجة من معقول ... » .
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ) لا تخاصموهم ( إلا بالتي هي أحسن ) أي : بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه وأراد من قبل الجزية منهم ( إلا الذين ظلموا منهم ) أي : أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم ، لأن جميعهم ظالم بالكفر . وقال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب ومن لا عهد له . قال قتادة ومقاتل : صارت منسوخة بقوله : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " ( التوبة - 29 ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه ، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم .( وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا عثمان بن عمر ، أخبرنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " . أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أخبرنا عبد الرازق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، أخبرنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره : أنه بينا هو جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله أعلم " ، فقال اليهودي : إنها تتكلم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه " .