أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف، فيكون الثلثين ونحوها. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له،
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- سبحانه-: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ... تخيير له صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإسلام من يسر وسماحة ...فكأنه- تعالى- يقول له على سبيل التلطف والإرشاد إلى ما يشرح صدره- يا أيها المتلفف بثيابه، قم الليل للعبادة والصلاة، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون في حدود ثلث الليل، ولك- أيها الرسول الكريم- أن تزيد على ذلك، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة، وثلثه للنوم والراحة ...فأنت ترى أن الله- تعالى- قد رخص لنبيه صلى الله عليه وسلم في أن يجعل نصف الليل أو ثلثه، أو ثلثيه للعبادة والطاعة. وأن يجعل المقدار الباقي من الليل للنوم والراحة ...وخص- سبحانه- الليل بالقيام، لأنه وقت سكون الأصوات ... فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا، وأدعى لصفاء النفس، وطهارة القلب، وحسن الصلة بالله- عز وجل-.هذا، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته. تعظيما لشأنه، ومداومة له على مناجاة ربه، خصوصا في الثلث الأخير من الليل، يدل على ذلك قوله- تعالى-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً .وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وقد أثنى- سبحانه- عليهم بسبب ذلك في آيات كثيرة منها قوله- تعالى-: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ .وقد ذكر الإمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل، فقالت له: ألست تقرأ هذه السورة، يا أيها المزمل ... ؟.إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله ختامها في السماء اثنى عشر شهرا. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.. .قال القرطبي ما ملخصه: واختلف: هل كان قيام الليل فرضا وحتما، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا، وذلك أن الندب والحض، لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت.واختلف- أيضا- هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال ... أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذي رواه سعيد بن هشام عن عائشة- رضى الله عنها- .وقال بعض العلماء بعد أن ساق أقوال العلماء في هذه المسألة بشيء من التفصيل: والذي يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال، هو القول القائل بأن التهجد كان فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا، وأنه لم ينسخ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل، لا ينقص كثيرا عن النصف..ويرد على هذا القول بما ثبت في الصحيحين، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله عما يجب عليه من صلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل على غيرها؟قال: لا إلا أن تطوع» .ويرى فريق آخر: أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل.واستبدل به قراءة القرآن، على ما يعطيه قوله- تعالى- عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ويدل عليه- أيضا- ظاهر ما روى عن عائشة، من قولها:فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة، دون أن تقيد ذلك بقيد.ويرى فريق ثالث: أن وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.ويرى فريق رابع: أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء.ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع.. فإن آية سورة الإسراء وهي قوله- تعالى-: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ... تدل على أن وجوب التهجد قد بقي عليه صلى الله عليه وسلم .وقوله- تعالى-: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إرشاد له صلى الله عليه وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم، حتى يستمروا عليها، وهم في أول عهدهم بنزول القرآن الكريم.والترتيل: جعل الشيء مرتلا، أى: منسقا منظما، ومنه قولهم: ثغر مرتل، أى: منظم الأسنان، لم يشذ بعضها عن بعض ...أى: قم- أيها الرسول الكريم- الليل إلا قليلا منه ... متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا، تستبين معه الكلمات والحروف، حتى يفهمها السامع، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره، وأثبت لمعانيه في القلب ...قال الإمام ابن كثير: وكذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم فقد قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها ... وسئل أنس عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدا ...وقال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» .وقال عبد الله بن مسعود: لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذّ الشّعر وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب - أى لا تسرعوا في قراءته كما تسرعوا في قراءة الشعر. والهذ: سرعة القطع- هذا، وليس معنى قوله- سبحانه-: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء، ومخارج الحروف، والغن والمد، والإدغام والإظهار ... وغير ذلك مما تقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم.وإنما معنى قوله- تعالى-: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإظهار والإخفاء، وغير ذلك ...وقد بسط القول في هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت .
﴿ تفسير البغوي ﴾
( أو زد عليه ) على النصف إلى الثلثين ، خيره بين هذه المنازل ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يقومون على هذه المقادير ، وكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى نصف الليل ومتى الثلثان ، فكان [ الرجل ] يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب ، واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله وخفف عنهم ونسخها بقوله : فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى " الآية . فكان بين أول السورة وآخرها سنة .أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني ، أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ ، حدثنا الحسن بن علي بن عفان ، حدثنا يحيى بن بشير ، حدثنا سعيد - يعني ابن أبي عروبة - حدثنا قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن سعيد بن هشام قال : انطلقت إلى عائشة رضي الله عنها فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : [ ألست ] تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى ، قالت : فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن ، قلت : فقيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أم المؤمنين ؟ قالت : ألست تقرأ : " يا أيها المزمل " قلت : بلى ، قالت : فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا بعد الفريضة .قال مقاتل وابن كيسان : كان هذا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس .( ورتل القرآن ترتيلا ) قال ابن عباس : بينه بيانا . وقال الحسن : اقرأه قراءة بينة . وقال مجاهد : ترسل فيه ترسلا . وقال قتادة : تثبت فيه تثبتا . وعن ابن عباس أيضا : اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعا أو خمسا .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا همام عن قتادة قال : سئل أنس كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كانت مدا مدا ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيمأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عمرو بن مرة قال : سمعت أبا وائل قال : جاء رجل إلى ابن مسعود ، قال : قرأت المفصل الليلة في ركعة ، فقال : هذا كهذ الشعر ؟ لقد عرفت النظائر التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن ، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين [ من آل حاميم ] في [ كل ] ركعة .أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن مثويه ، أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن الحسيني الحراني فيما كتبه إلي [ أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ] أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن حميد الواسطي ، حدثنا زيد بن أخزم ، حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا سعيد بن زيد ، عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال : لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن مثويه ، أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن الحسين الحراني فيما كتب إلي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري ، حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد ، حدثنا الحسين بن الحسن المروزي ، حدثنا ابن المبارك ، ح ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن عبيدة وهو أخوه عن سهل بن سعد الساعدي قال : بينا نحن نقرأ إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأخيار وفيكم الأحمر والأسود اقرءوا [ القرآن ] قبل أن يأتي أقوام يقرءونه ، يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم ، يتعجلون أخره ولا يتأجلونه " .أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا أبو بكر محمد بن نافع البصري ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن إسماعيل بن مسلم العبدي ، عن أبي المتوكل الناجي ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة .ورواه أبو ذر ، قال : قام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة حتى أصبح بآية [ من القرآن ] والآية : " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ( المائدة - 118 ) .