﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
النسيء: هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم، وكان من جملة بدعهم الباطلة، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال، في بعض أوقات الأشهر الحرم، رأوا بآرائهم الفاسدة أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم، التي حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حرامًا، فهذا كما أخبر اللّه عنهم أنه زيادة في كفرهم وضلالهم، لما فيه من المحاذير.منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه، واللّه ورسوله بريئان منه.ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه.ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها، يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل، ولهذا قال: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم نعى- سبحانه- على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم.. فقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ.. والنسيء: مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشيء إذا أخره. ومنه نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها عنه. ومنه: أنسأ الله في أجل فلان، أى: أخره والمراد به: تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال:«كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر- وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها- حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين.والمعنى: إنما النسيء الذي يفعله المشركون، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر، زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أى: زيادة في كفرهم لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا آخر، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة والكفر في التشريع.قال القرطبي: وقوله: زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر، فإنها أنكرت وجود الباري- تعالى- فقالت: وَمَا الرَّحْمنُ في أصح الوجوه.وأنكرت البعث فقالت مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، وأنكرت بعثة الرسل فقالوا:أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهوانها فأحلت ما حرمه الله: ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون».وقوله يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول.أى: يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسيء في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم.وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو يضل بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل.أى: يضل الله الذين كفروا، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسيء.ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسيء الذي هو لون من ألوان استحلال محارم الله.وقوله: يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً بيان وتفسير لكيفية ضلالهم.والضمير المنصوب في يُحِلُّونَهُ ويُحَرِّمُونَهُ يعود إلى النسيء، أى الشهر المؤخر عن موعده.والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم، وأنهم يحرمونه أى: يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر، إذا كانت مصلحتهم في ذلك.والمواطأة: الموافقة. يقال: واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته.والمعنى: فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم، ليوافقوا بما فعلوه عدة الأشهر الحرم، بحيث تكون أربعة في العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في شريعة الله.قال ابن عباس: ما أحل المشركون شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الأشهر الحلال. وما حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام، لكي يكون عدد الأشهر الحرم أربعة..وقوله: فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ تفريع على ما تقدم.أى: فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة، ما حرمه الله في شرعه. فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله في عدد الشهور المحرمة، إلا أنهم خالفوه في تخصيصها فقد كانوا- مثلا- يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر.وقوله: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ذم لهم على انتكاس بصائرهم، وسوء تفكيرهم.أى: زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا. وقوله:وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين.أى: والله تعالى. اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا طريق الغي على طريق الرشاد..فكان أمرهم فرطا.هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.1- أن السنة اثنا عشر شهرا، وأن شهور السنة القمرية هي المعول عليها في الأحكام لا شهور السنة الشمسية.قال الفخر الرازي، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهرا من الشهور القمرية، والدليل عليه هذه الآية إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الآية، وقوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.. فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر.وأيضا قوله. تعالى: (يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج..) .ثم قال، واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل. عليهما السلام. فأما عند اليهود والنصارى، فليس الأمر كذلك..) .وقال الجمل: قوله (اثنا عشر شهرا) هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم. وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما. والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس في الفلك دورة تامة، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما.وربع يوم. فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف) .هذا، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية، وعن سبب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت.2- وجوب التقيد بما شرعه الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها.قال القرطبي ما ملخصه: وضع- سبحانه- هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة، وهو معنى قوله:إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً. وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم في الاسم منها.والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها.ولذا قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات الأرض» .ثم قال القرطبي كانوا يحرمون شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض».3- أخذ بعضهم من قوله تعالى- فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعا.قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها.وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، بدليل أن الله- تعالى- بعد أن نهى المؤمنين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد بزمن فقال وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فدل ذلك على أن القتال في الأشهر الحرم مباح.وبدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة.قال ابن كثير: ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم.. لجئوا إلى الطائف، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام- أى. في شهر ذي القعدة.ثم قال ما ملخصه: وأما قوله- تعالى- وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف، ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم.. ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم-. أى من الأعداء: كما قال: - تعالى- الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ وكما قال- تعالى- وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها، فإنهم الذين بدءوا القتال للمسلمين.. فعند ذلك قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة منهم.. واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوما، وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم، لأنه يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء، وهذا أمر مقرر.ومن كلام ابن كثير. رحمه الله- نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهي عنه هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم، لا إتمام القتال فيها متى بدأ الأعداء ذلك وهو قريب من قول القائل: لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا أن يكون دفاعا.وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، لأنه لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ أعداءه القتال في الأشهر الحرم، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدءوا قتال المسلمين فيها، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم:4- ذكر المفسرون روايات في أول من أخر حرمة شهر إلى آخر، فعن مجاهد قال: كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: أيها الناس: إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم.وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا رجل من بنى كنانة يقال له «القلمس» وكان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام. يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده. فلما كان هو قال لقوله: اخرجوا بنا- أى للقتال-. فقالوا له:هذا المحرم. قال: ننسئه العام، هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا.. جعلناهما محرمين.قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: لا تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان» .وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسيء، ومن ذلك قول شاعرهم:ومنا ناسئ الشهر القلمس قال آخر:ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراماوقد أبطل الإسلام كل ذلك، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها- سبحانه- عليه يوم خلق السموات والأرض.وبعد: فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا، نراها- في مجموعها كما سبق أن بينا- قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، كما نراها قد أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكيم مؤثر، يقنع العقول، ويشبع العواطف.ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة.. وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين، والتحذير منهم.وقد بدأت السورة حديثها عن غزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى:
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) قيل : هو مصدر كالسعير والحريق . وقيل : هو مفعول كالجريح والقتيل ، وهو من التأخير . ومنه النسيئة في البيع ، يقال : أنسأ الله في أجله أي أخر ، وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء ، وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري : بتشديد الياء من غير همز ، وقد قيل : أصله الهمزة فخفف .وقيل : هو من النسيان على معنى المنسي أي : المتروك . ومعنى النسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر ، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام ، وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة ، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي ، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم ، فنسئوا أي : أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم ، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع ، هكذا شهرا بعد شهر ، حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه ، وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته . كما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا عبد الواحد حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين ، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " . وقال : " أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس ذو الحجة؟ قلنا : بلى ، قال : أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس البلد الحرام؟ قلنا : بلى ، قال : فأي يوم هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس يوم النحر؟ قلنا : بلى ، قال : فإن دماءكم وأموالكم ، قال محمد : أحسبه قال : وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ، ألا هل بلغت ألا هل بلغت " ؟قالوا : وكان قد استمر النسيء بهم ، فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر .قال مجاهد : كانوا يحجون في كل شهر عامين ، فحجوا في شهر ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع ، فوافق حجه شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة ، فوقف بعرفة يوم التاسع ، وخطب اليوم العاشر بمنى ، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان ، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض ، وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام .واختلفوا في أول من نسأ النسيء : فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد : أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة ، وكانوا ثلاثة .أبو ثمامة جناد بن عوف بن أمية الكناني . وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال : له نعيم بن ثعلبة ، وكان يكون أميرا على الناس بالموسم ، فإذا هم الناس بالصدر ، قام فخطب الناس فقال : لا مرد لما قضيت ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ، فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه ، فيقول : فإن صفر العام حرام ، فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة ، وأغاروا . وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو رجل من بني كنانة يقال له : القلمس ، قال شاعرهم :وفينا ناسئ الشهر القلمسوكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم .وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف .أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب ، وهو يجر قصبه في النار " .فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال : ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) يريد زيادة كفر على كفرهم ، ( يضل به الذين كفروا ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : ( يضل ) بضم الياء وفتح الضاد ، كقوله تعالى : " زين لهم سوء أعمالهم " ، وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد ، وهي قراءة الحسن ومجاهد على معنى " يضل " به الذين كفروا الناس ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد ، لأنهم هم الضالون لقوله : ( يحلونه ) يعني النسيء ( عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا ) أي : ليوافقوا ، والمواطأة : الموافقة ، ( عدة ما حرم الله ) يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام ، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، كما حرم الله فيكون موافقة العدد ، ( فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم ) قال ابن عباس : زين لهم الشيطان ، ( والله لا يهدي القوم الكافرين )