﴿ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
فتقبلها ربها بقبول حسن أي: جعلها نذيرة مقبولة، وأجارها وذريتها من الشيطان وأنبتها نباتًا حسنًا أي: نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها وأخلاقها، لأن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلام وكفلها إياه، وهذا من رفقه بها ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها وفاقت النساء، وانقطعت لعبادة ربها، ولزمت محرابها أي: مصلاها فكان كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا أي: من غير كسب ولا تعب، بل رزق ساقه الله إليها، وكرامة أكرمها الله بها، فيقول لها زكريا أنى لك هذا قالت هو من عند الله فضلا وإحسانا إن الله يرزق من يشاء بغير حساب أي: من غير حسبان من العبد ولا كسب، قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب وفي هذه الآية دليل على إثبات كرامات الأولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت الأخبار بذلك، خلافا لمن نفى ذلك، فلما رأى زكريا عليه السلام ما من الله به على مريم، وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها ولا كسب، طمعت نفسه بالولد
﴿ تفسير الوسيط ﴾
والفاء في قوله: فَتَقَبَّلَها تفريع على الدعاء مؤذن بسرعة الإجابة، والضمير يعود إلى مريم. والتقبل- كما يقول الراغب- قبول الشيء على وجه يقتضى ثوابا كالهدية ونحوها.وإنما قال- سبحانه- فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ ولم يقل بتقبل: للجمع بين الأمرين: التقبل الذي هو الترقي في القبول، والقبول الذي يقتضى الرضا والإثابة» .والمعنى: أن الله- تعالى- تقبل مريم قبولا مباركا وخرق بها عادة قومها، فرضي أن تكون محررة للعبادة وخدمة بيته كالذكور، مع كونها أنثى وفاء بنذر الأم التقية التي قالت رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً.وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أى رباها تربية حسنة، وصانها من كل سوء، فكان حالها كحال النبات الذي ينمو في الأرض الصالحة حتى يؤتى ثماره الطيبة.وهكذا قيض الله- تعالى- لمريم كل ألوان السعادة الحقيقية، فقد قبلها لخدمة بينه مع أنها أنثى، وأنشأها حسنة بعيدة عن كل نقص خلقي أو خلقي، وهيأ لها وسائل العيش الطيب من حيث لا تحتسب. فقد قال- تعالى- وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.قوله وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أى ضمها إلى زكريا، لأن الكفالة في أصل معناها الضم. أى ضمها الله- تعالى- إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها.وقرئ وَكَفَّلَها بتخفيف الفاء. وبرفع زَكَرِيَّا على أنه فاعل. وعلى هذه القراءة تنطق كلمة زكريا بالمد قبل الهمزة فقط أى «زكرياء» .أما على القراءة الأولى فيجوز في زكريا المد والقصر.وزكريا هو أحد أنبياء بنى إسرائيل وينتهى نسبة إلى سليمان بن داود- عليهما السلام- وكان متزوجا بخالة مريم، وقيل كان متزوجا بأختها.وكانت كفالته لها نتيجة اقتراع بينه وبين من رغبوا في كفالتها من سدنة بيت المقدس، يدل على ذلك قوله- تعالى- ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ.قال صاحب الكشاف: «روى أن «حنة» حين ولدت مريم، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وهم في بيت المقدس، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم» .فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا: لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا إلى نهر وألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها» .وقوله: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً بيان لكفالة الله- تعالى- لرزقها ورضاه عنها، ورعايته لها.والمحراب الموضع العالي الشريف والمراد به الغرفة التي كانت تتخذها مريم مكانا لعبادتها في المسجد. سمى بذلك لأنه مكان محاربة الشيطان والهوى.قال الآلوسى ما ملخصه: «والمحراب- على ما روى عن ابن عباس- غرفة بنيت لها في بيت المقدس، وكانت لا يصعد إليها إلا بسلم. وقيل المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب. وقيل المراد به أشرف مواضع المسجد ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد أصلهمفعال: صيغة مبالغة- كمطعان- فسمى به المكان، لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه و «كلما» ظرف على أن «ما» مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها.والمعنى: كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه «وجد عندها رزقا» أى أصاب ولقى بحضرتها ذلك أو وجد ذلك كائنا بحضرتها. أخرجه بن جرير عن الربيع قال: «إنه كان لا يدخل أحد سوى زكريا فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف» والتنوين في رِزْقاً للتعظيم.. .وهذا دليل على قدرة الله- سبحانه- على كل شيء، وعلى رعايته لمريم، فقد رزقها- سبحانه- من حيث لا تحتسب، ودليل على وقوع الكرامة لأوليائه- تعالى-.ولقد كان وجود هذا الرزق عند مريم دون أن يعرف زكريا- عليه السّلام- مصدره مع أنه لا يدخل عليها أحد سواه كان ذلك محل عجبه، لذا حكى القرآن عنه: قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أى من أين لك هذا الرزق العظيم الذي لا أعرف سببه ومصدره. وأَنَّى هنا بمعنى من أين.والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذا الرزق؟ فكان الجواب: قال يا مريم من أين لك هذا.ولقد كانت إجابة مريم على زكريا تدل على قوة إيمانها، وصفاء نفسها. فقد أجابته بقولها- كما حكى القرآن عنها- قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أى: قالت له إن هذا الرزق من عند الله- تعالى- فهو الذي رزقني إياه وسافه إلى بقدرته النافذة.وقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ جملة تعليلية. أى: إن الله تعالى، يرزق من يشاء أن يرزقه رزقا واسعا عظيما لا يحده حد، ولا تجرى عليه الأعداد التي تنتهي، فهو- سبحانه- لا يحاسبه محاسب، ولا تنقص خزائنه من أى عطاء مهما كثر وعظم.وهذه الجملة الكريمة يحتمل أنها من كلام الله- تعالى- فتكون مستأنفة، ويحتمل أنها من كلامها الذي حكاه القرآن عنها، فتكون تعليلية في محل نصب داخلة تحت القول.هذا وفي تلك الآيات التي حكاها القرآن عن مريم وأمها نرى كيف يعمل الإيمان عمله في القلوب فينقيها ويصفيها ويحررها من رق العبودية لغير الله الواحد القهار وكيف أن الله تعالى، يتقبل دعاء عباده الصالحين، وينبتهم نباتا حسنا، ويرعاهم برعايته، يرزقهم من حيث لا يحتسبون.ولقد كان ما رآه زكريا- عليه السّلام- من أحوال مريم من الأسباب التي جعلته- وهو الشيخ الهرم- يتضرع إلى الله أن يرزقه الذرية الصالحة، وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال- تعالى-:
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) أي تقبل الله مريم من حنة مكان المحرر ، وتقبل بمعنى قبل ورضي ، والقبول مصدر قبل يقبل قبولا مثل الولوع والوزوع ولم يأت غير هذه الثلاثة وقيل : معنى التقبل التكفل في التربية والقيام بشأنها ( وأنبتها نباتا حسنا ) معناه : وأنبتها فنبتت نباتا حسنا وقيل هذا مصدر على غير [ اللفظ ] وكذلك قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) [ ومثله شائع كقولك تكلمت كلاما وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) ] أي سلك بها طريق السعداء ( وأنبتها نباتا حسنا ) يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في العام ( وكفلها زكريا ) قال أهل الأخبار : أخذت حنة مريم حين ولدتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار ، أبناء هارون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم فقال لهمزكريا : أنا أحقكم بها ، عندي خالتها ، فقالت له الأحبار : لا نفعل ذلك ، فإنها لو تركت لأحق الناس لها لتركت لأمها التي ولدتها لكنا نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه ، فانطلقوا وكانوا [ تسعة وعشرين ] رجلا إلى نهر جار ، قال السدي : هو نهر الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء فصعد فهو أولى بهاوقيل : كان على كل قلم اسم واحد منهموقيل : كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء [ فارتز ] قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر ، قاله محمد بن إسحاق وجماعةوقيل : جرى قلم زكريا مصعدا إلى أعلى الماء وجرت أقلامهم بجري الماء .وقال السدي وجماعة : بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامهم مع جرية الماء فذهب بها الماء فسهمهم وقرعهم زكريا ، وكان زكريا رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى ( وكفلها زكريا ) قرأ حمزة والكسائي وعاصم بتشديد الفاء فيكون زكريا في محل النصب أي ضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة ، وقرأ الآخرون بالتخفيف فيكون زكريا في محل الرفع أي ضمها زكريا إلى نفسه وقام بأمرها ، وهو زكريا بن آذن بن مسلم بن صدوق من أولاد سليمان بن داود عليهما السلاموقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : زكريا مقصورا والآخرون يمدونهفلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها ، بيتا واسترضع لها وقال محمد بن إسحاق ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد ، وجعل بابه في وسطها لا يرقى إليها إلا بالسلم مثل باب الكعبة لا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم ( كلما دخل عليها زكريا المحراب ) وأراد بالمحراب الغرفة ، والمحراب أشرف المجالس ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، ويقال للمسجد أيضا محراب قال المبرد : لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرجة ، وقال الربيع بن أنس : كان زكريا إذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها غرفتها ( وجد عندها رزقا ) أي فاكهة في غير حينها ، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ( قال يا مريم أنى لك هذا ) قال أبو عبيدة : معناه من أين لك هذا؟ وأنكر بعضهم عليه ، وقال : معناه من أي جهة لك هذا؟ لأن " أنى " للسؤال عن الجهة وأين للسؤال عن المكان ( قالت هو من عند الله ) أي من قطف الجنة ، قال الحسن : حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط ، كان يأتيها رزقها من الجنة ، فيقول لها زكريا : أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )وقال محمد بن إسحاق : ثم أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها فخرج على بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل : تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل مريم بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي؟ قالوا : والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى ، فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا ، فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له : يوسف بن يعقوب وكان ابن عم مريم فحملها ، فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه فقالت له : يا يوسف أحسن بالله الظن فإن الله سيرزقنا ، فجعل يوسف يرزق بمكانها منه ، فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فإذا أدخله عليها في الكنيسة أنماه الله ، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق ، ليس بقدر ما يأتيها به يوسف ، فيقول : يا مريم أنى لك هذا قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .قال أهل الأخبار فلما رأى ذلك زكريا قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي ولدا في غير حينه من الكبر فطمع في الولد ، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد