﴿ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها.فذلك كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ أي: نبت فيها من كل صنف، وزوج بهيج مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ كالحبوب والثمار و مما تأكل الْأَنْعَامِ كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ أي: تزخرفت في منظرها، واكتست في زينتها، فصارت بهجة للناظرين، ونزهة للمتفرجين، وآية للمتبصرين، فصرت ترى لها منظرًا عجيبًا ما بين أخضر، وأصفر، وأبيض وغيره.وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أي: حصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، وانتهاء مطالبهم فيه.فبينما هم في تلك الحالة أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي: كأنها ما كانت فهذه حالة الدنيا، سواء بسواء.كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان، وضرب الأمثال لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم.وأما الغافل المعرض، فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- سبحانه- إِنَّما مَثَلُ ... المثل بمعنى المثل، والمثل: النظير والشبيه، ثم اطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه- لمورده الذي ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية وأشباهها.والأمثال إنما تضرب لتوضيح المعنى الخفى، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس، وعرض الأمر الغائب في صورة المشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس.والمعنى: إنما صفة الحياة الدنيا وحالها في سرعة زوالها، وانصرام نعيمها بعد إقباله. كحال ماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أى: فكثر بسببه نبات الأرض حتى التف وتشابك بعضه ببعض لازدهاره وتجاوزه ونمائه.وشبه- سبحانه- الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض، لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه بزيادة أو نقص- بخلاف ماء الأرض- فكان تشبيه الحياة به أنسب.وقوله: مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ معناه: وهذا النبات الذي نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء، بعضه مما يأكله الناس كالبقول والفواكه. وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة.وجملة مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حال من النبات.وقوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ.. تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج.ولفظ حَتَّى غاية لمحذوف: أى نزل المطر من السماء فاهتزت الأرض وربت وأنبتت النبات الذي ما زال ينمو ويزدهر حتى أخذت الأرض زخرفها.والزخرف: الذهب وكمال حسن الشيء. ومن القول أحسنه، ومن الأرض ألوان نباتها.أى: حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة، والألوان المتعددة.قال صاحب الكشاف: «وهو كلام فصيح. جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة، أصل ازينت تزينت» .وقوله: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أى: وظن أهل تلك الأرض الزاخرة بالنباتات النافعة. أنهم قادرون على قطف ثمارها، ومتمكنون من التمتع بخيراتها، ومن الانتفاع بغلاتها.وقوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً.. تصوير معجز لما أصاب زرعها من هلاك بعد نضرته واستوائه وأَوْ للتنويع أى: تارة يأتى ليلا وتارة يأتى نهارا.والجملة الكريمة جواب إذا في قوله حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها ...أى: بعد أن بلغت الأرض الذروة في الجمال وفي تعلق الآمال بمنافع زروعها، أتاها قضاؤنا النافذ، وأمرنا المقدر لإهلاكها بالليل وأصحابها نائمون، أو بالنهار وهم لا هون، فجعلناها بما عليها كالأرض المحصودة، التي استؤصل زرعها.وقوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة.أى: جعلناها كالأرض المحصودة التي قطع زرعها، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب: الزرع النضير، والنبات البهيج، والنخل الباسق، والطلع النضيد.قال القرطبي قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى: لم تكن عامرة. من غنى بالمكان إذا أقام فيه وعمره، والمغانى في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس» .وقال ابن كثير: قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى كأنها ما كانت حينا قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا.ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط فيقول لا» .والمراد بالأمس هنا: الوقت الماضي القريب: لا خصوص اليوم الذي قبل يومك.وقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار.أى: كهذا المثل في وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر في ملكوت السموات والأرض.قال الجمل ما ملخصه: «وهذه الآية مثل ضربه الله- تعالى- للمتشبث في الدنيا الراغب في زهرتها وحسنها.. ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التي ينتفع بها المرء، كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها» .وبعد أن بين- سبحانه- حال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها، أتبع ذلك بدعوة الناس جميعا إلى العمل الصالح الذي يوصلهم إلى الجنة فقال- تعالى-:
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( إنما مثل الحياة الدنيا ) في فنائها وزوالها ، ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به ) أي : بالمطر ، ( نبات الأرض ) قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون ، ( مما يأكل الناس ) من الحبوب والثمار ، ( والأنعام ) من الحشيش ، ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) حسنها وبهجتها ، وظهر الزهر أخضر وأحمر وأصفر وأبيض ( وازينت ) أي : تزينت ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود : " تزينت " . ( وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) على جذاذها وقطافها وحصادها ، رد الكناية إلى الأرض . والمراد : النبات إذ كان مفهوما ، وقيل : ردها إلى الغلة . وقيل : إلى الزينة . ( أتاها أمرنا ) قضاؤنا ، بإهلاكها ، ( ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي : محصودة مقطوعة ، ( كأن لم تغن بالأمس ) كأن لم تكن بالأمس ، وأصله من غني بالمكان إذا أقام به . وقال قتادة : معناه أن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون . ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) .