﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
هذه الآيات الكريمات مشتملات على المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر، والمحرمات بالجمع، وعلى المحللات من النساء. فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللاتي ذكرهن الله. الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة، وإن بعدت، ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة، والأخوات الشقيقات، أو لأب أو لأم. والعمة: كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا. والخالة: كل أخت لأمك، أو جدتك وإن علت وارثة أم لا. وبنات الأخ وبنات الأخت أي: وإن نزلت. فهؤلاء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة. وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت. وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها، إنما هو لصاحب اللبن، دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب، وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط. لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة. وأما المحرمات بالصهر فهن أربع. حلائل الآباء وإن علوا، وحلائل الأبناء وإن نزلوا، وارثين أو محجوبين. وأمهات الزوجة وإن علون، فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد. والرابعة: الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت، فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الآية. وقد قال الجمهور: إن قوله: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان: إحداهما: فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها. والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن. والله أعلم. وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك من يحرم نكاحهن من الأقارب فقال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وليس المراد بقوله حُرِّمَتْ تحريم ذاتهن، لأن الحرمة لا تتعلق بالذوات وإنما تتعلق بأفعال المكلفين. فالكلام على حذف مضاف أى حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم.. إلخ وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله، معنى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ تحريم نكاحهن لقوله.وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ولأن تحريم نكاحهن هو الذي يفهم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها. ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله» .وقد ذكر- سبحانه- في هذه الجملة الكريمة أربع طوائف من الأقارب يحرم نكاحهن.أما الطائفة الأولى: طائفة الأمهات من النسب. أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم من النسب، ويعم هذا التحريم أيضا الجدات سواء أكن من جهة الأب أم من جهة الأم، لأنه إذا كان يحرم نكاح العمة أو الخالة فمن الأولى أن يكون نكاح الجدة محرما، إذ الأم هي طريق الوصول في القرابة إلى هؤلاء. وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح الجدات.والطائفة الثانية: هي طائفة الفروع من النساء، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله وَبَناتُكُمْ بالعطف على أمهاتكم.أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم.والبنت هي كل امرأة لك عليها ولادة سواء أكانت بنتا مباشرة أم بواسطة فتشمل حرمة النكاح البنات وبنات الأبناء وبنات البنات وإن نزلن.وقد انعقد الإجماع على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن.والطائفة الثالثة: هي طائفة فروع الأبوين. وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله وَأَخَواتُكُمْ ثم بقوله، وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ بالعطف على أُمَّهاتُكُمْ.أى وحرم الله عليكم نكاح أخواتكم سواء أكن شقيقات أم غير شقيقات حرم عليكم أيضا نكاح بنات إخوانكم وبنات أخواتكم من أى وجه يكن.والطائفة الرابعة: هي طائفة العمات والخالات. وقد ثبت تحريم نكاحهن بقوله- تعالى- وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ بالعطف على أُمَّهاتُكُمْ.أى حرم الله عليكم نكاح عماتكم وخالاتكم كما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم.والعمة: هي كل امرأة شاركت أباك مهما علا في أصليه أو في أحدهما.والخالة: هي كل امرأة شاركت أمك مهما علت في أصليها أو في أحدهما.وإذن فالعمات والخالات يشملن عمات الأب والأم، وخالات الأب والأم، وعمات الجد والجدة، وخالات الجد والجدة. لأن هؤلاء يطلق عليهن عرفا اسم العمة والخالة.تلك هي الطوائف الأربع اللاتي يحرم نكاحهن من الأقارب، وإن هذا التحريم يتناسب مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويتفق مع العقول السليمة التي تحب مكارم الأخلاق، وذلك لأن شريعة الإسلام قد نوهت بمنزلة القرابة القريبة للإنسان، وأضفت عليها الكثير من ألوان الوقار والاحترام والزواج وما يصاحبه من شهوات ومداعبات ورضا واختلاف يتنافى مع ما أسبغه الله- تعالى- على هذه القرابة القريبة من وقار ومن عواطف شريفه.ولأن التجارب العلمية قد أثبتت أن التلاقح بين سلائل متباعدة الأصول غالبا ما ينتج نسلا قويا، أما التلاقح بين السلائل المتحدة في أصولها القريبة فإنه غالبا ما ينتج نسلا ضعيفا.ثم بين- سبحانه- النساء اللائي يحرم الزواج بهن لأسباب أخرى سوى القرابة فقال- تعالى- وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ.أى: وحرم الله- عليكم نكاح أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وحرم عليكم- أيضا- نكاح أخواتكم من الرضاعة.والأم من الرضاع: هي كل امرأة أرضعتك وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة من جهة النسب أو من جهة الرضاع.والأخت من الرضاع: هي التي التقيت أنت وهي على ثدي واحد.قال القرطبي: وهي الأخت لأب وأم. وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أو رضعت قبلك أو بعدك والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك. والأخت من الأم دون الأب وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر» .هذا، وظاهر قوله- تعالى- وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ يقتضى أن مطلق الرضاع محرم للنكاح. وبذلك قال المالكية والأحناف:ويرى الشافعية والحنابلة أن الرضاع المحرم هو الذي يبلغ خمس رضعات. واستدلوا بما رواه مسلم وغيره عن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان» وفي رواية عنها أنه قال: «لا تحرم الرضعة والرضعتان، والمصة والمصتان» .كذلك ظاهر هذه الجملة الكريمة يقتضى أن الرضاع يحرم النكاح ولو في سن الكبر، إلا أن جمهور العلماء يرون أن الرضاع المحرم هو ما كان قبل بلوغ الحولين أما ما كان بعد بلوغ الحولين فلا يحرم ولا يكون الرضيع ابنا من الرضاعة وذلك لقوله- تعالى- وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ.وأخرج الترمذي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام» .قال ابن كثير عند تفسيره لقوله- تعالى- وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ.أى: كما يحرم عليك نكاح أمك التي ولدتك كذلك يحرم عليك نكاح أمك التي أرضعتك.ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» وفي لفظ لمسلم: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» .ومن الحكم التي ذكرها العلماء من وراء تحريم النكاح بسبب الرضاعة: أن المولود يتكون جسمه من جسم المرأة التي أرضعته فيكون جزءا منها، كما أنه جزء من أمه التي حملته. وإذا كانت هذه قد غذته بدمها وهو في بطنها فإن تلك قد غذته بلبانها وهو في حجرها، فكان من التكريم لهذه الأم من الرضاع أن تعامل معاملة الأم الحقيقية، وأن يعامل كل من التقيا على ثدي امرأة واحدة معاملة الإخوة من حيث التكريم وحرمة النكاح بينهم.هذا، ومن أراد المزيد من المعرفة لأحكام الرضاع فليرجع إلى كتب الفقه ثم ذكر- سبحانه- نوعا ثالثا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ.أى: وكذلك حرم الله عليكم نكاح أمهات زوجاتكم سواء أكن أمهات مباشرات أم جدات، لأن كلمة الأم تشمل الجدات، ولإجماع الفقهاء على ذلك.قال الآلوسى: والمراد بالنساء المعقود عليهن على الإطلاق، سواء أكن مدخولا بهن أم لا.وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة، لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا. أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ ابنتها. فقد أخرج البيهقي في سننه وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل. وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة » .ثم بين- سبحانه- نوعا رابعا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال تعالى- وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.وقوله وَرَبائِبُكُمُ جمع ربيبة. وهي بنت امرأة الرجل من غيره. وسميت بذلك لأن الزوج في أغلب الأحوال يربها أى يربيها في حجره ويعطف عليها.والحجور: جمع حجر- بالفتح والكسر مع سكون الجيم- وهو ما يحويه مجتمع الرجلين للجالس المتربع. والمراد به هنا معنى مجازى وهو الحضانة والكفالة والعطف. يقال: فلان في حجر فلان أى في كنفه ومنعته ورعايته.ومقتضى ظاهر الجملة الكريمة أن الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج أمها إلا بشرطين:أولهما: كونها في حجره.وثانيهما: أن يكون الزوج قد دخل بأمها.أما عن الشرط الأول فلم يأخذ به جمهور العلماء، وقالوا: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب والعادة، إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج، لا أنه شرط في التحريم فهم يرون أن نكاح الربيبة حرام على زوج أمها سواء أكانت في حجره أم لم تكن قالوا: وفائدة هذا القيد تقوية علة الحرمة أو أنه ذكر للتشنيع عليهم، إذ أن نكاحها محرم عليهم في جميع الصور إلا أنه يكون أشد قبحا في حالة وجودها في حجره هذا رأى عامة الصحابة والفقهاء.ولكن هناك رواية عن مالك بن أوس عن على بن أبى طالب أنه قال: الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج الأم إلا إذا كانت في حجره أخذا بظاهر الآية الكريمة. وقد أخذ بذلك داود الظاهري وأشياعه.وأصحاب الرأى الأول لم يعتدوا بهذه الرواية المروية عن على- رضى الله عنه- وأما عن الشرط الثاني- وهو أن يكون الزوج قد دخل بأم الربيبة- فقد أخذ به العلماء إلا أنهم اختلفوا في معنى الدخول فقال بعضهم: معناه الوطء والجماع. وقال بعضهم: معناه التمتع كاللمس والقبلة، فلو حصل منه مع الأم ما يشبه ذلك حرم عليه نكاح ابنتها من غيره.قال القرطبي ما ملخصه: اتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره. وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها. ثم قال وقوله- تعالى- فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يعنى الأمهات فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعنى في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم.وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به التحريم للربائب. فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول: الجماع. واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعى ... ) .والحكمة في تحريم الربائب على أزواج أمهاتهن أنهن حينئذ يشبهن البنات الصلبيات بالنسبة لهؤلاء الأزواج، بسبب ما يجدنه منهم من رعاية وتربية في العادة، ولأنه لو أبيح للرجل أن يتزوج ببنت امرأته التي دخل بها، لأدى ذلك إلى تقطيع الأرحام بين الأم وابنتها. ولأدى ذلك أيضا إلى الانصراف عن رعاية هؤلاء الربائب خشية الرغبة في الزواج بواحدة منهن.ثم بين- سبحانه- نوعا خامسا من المحارم فقال. تعالى-: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ.والحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة. وسميت بذلك لحلها للزوج وحل الزوج لها، فكلاهما حلال لصاحبه. ويقال للزوج حليل.أى: وحرم الله- تعالى- عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين هم من أصلابكم. أى: من ظهوركم.وقال- سبحانه- وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ بدون تقييد بالدخول. للاشارة إلى أن حليلة الابن تحرم على الأب بمجرد عقد الابن عليها.قال القرطبي: أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء. وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء أكان مع العقد وطء أم لم يكن: لقوله- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله- تعالى-: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. وقيد الله الأبناء بالذين هم من الأصلاب، ليخرج الابن المتبنى. فهذا تحل زوجته للرجل الذي تبناه.وقد كان العرب يعتبرون الابن بالتبني كأولادهم من ظهورهم، ويحرمون زوجة الابن بالتبني على من تبناه. وقد سمى القرآن الأبناء بالتبني أدعياء فقال- تعالى-:وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ.ثم أبطل القرآن ما كان عليه أهل الجاهلية في شأن الابن المتبنى، فأباح للرجل أن يتزوج من زوجة الابن الذي تبناه بعد فراقه عنها.وقد أمر الله- تعالى- نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة، وكان زيد قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: تزوج محمد امرأة ابنه فأنزل الله- تعالى- فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.فإن قيل: إن قيد «من أصلابكم» . يخرج الابن من الرضاع كما أخرج الابن بالتبني؟أى: وحرم الله- تعالى- عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين هم من أصلابكم. أى: من ظهوركم.وقال- سبحانه- وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ بدون تقييد بالدخول. للاشارة إلى أن حليلة الابن تحرم على الأب بمجرد عقد الابن عليها.قال القرطبي: أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء. وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء أكان مع العقد وطء أم لم يكن: لقوله- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله- تعالى-: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. وقيد الله الأبناء بالذين هم من الأصلاب، ليخرج الابن المتبنى. فهذا تحل زوجته للرجل الذي تبناه.وقد كان العرب يعتبرون الابن بالتبني كأولادهم من ظهورهم، ويحرمون زوجة الابن بالتبني على من تبناه. وقد سمى القرآن الأبناء بالتبني أدعياء فقال- تعالى-:وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ.ثم أبطل القرآن ما كان عليه أهل الجاهلية في شأن الابن المتبنى، فأباح للرجل أن يتزوج من زوجة الابن الذي تبناه بعد فراقه عنها.وقد أمر الله- تعالى- نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة، وكان زيد قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: تزوج محمد امرأة ابنه فأنزل الله- تعالى- فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.فإن قيل: إن قيد «من أصلابكم» . يخرج الابن من الرضاع كما أخرج الابن بالتبني؟الإمام أحمد عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرنى النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما» .وكما أنه يحرم الجمع بين الأختين في عصمة رجل واحد، فكذلك يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها لنهى النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقد جاء في صحيح مسلم وفي سنن أبى داود والترمذي والنسائي عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها» .وفي رواية الطبراني أنه قال: «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» والسر في تحريم هذا النوع من النكاح أنه يؤدى إلى تقطيع الأرحام- كما جاء في الحديث الشريف- إذ من شأن الضرائر أن يكون بينهن من الكراهية وتبادل الأذى ما هو مشاهد ومعلوم. فكان من رحمة الله بعباده أن حرم عليهم هذه الأنواع من الأنكحة السابقة صيانة للأسرة من التمزق والتشتت، وحماية لها من الضعف والوهن، وسموا بها عن مواطن الريبة والغيرة والفساد وقد عفا- سبحانه- عما حدث من هذه الأنكحة الفاسدة في الجاهلية أو قبل نزول هذه الآية الكريمة بتحريمها، لأنه- سبحانه- كان وما زال غفارا للذنوب، ستارا للعيوب، رحيما بعباده، ومن رحمته بهم أنه لا يعذبهم من غير نذير، ولا يؤاخذهم على ما اكتسبوا إلا بعد بيان واضح.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) الآية ، بين الله تعالى في هذه الآية المحرمات بسبب الوصلة ، وجملة المحرمات في كتاب الله تعالى أربع عشرة : سبع بالنسب ، وسبع بالسبب .فأما السبع بالسبب فمنها اثنتان بالرضاع وأربع بالصهرية والسابعة المحصنات ، وهن ذوات الأزواج .وأما السبع بالنسب فقوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) وهي جمع أم فيدخل فيهن الجدات وإن علون من قبل الأم ومن قبل الأب ، ( وبناتكم ) جمع : البنت ، فيدخل فيهن بنات الأولاد وإن سفلن ، ( وأخواتكم ) جمع الأخت سواء كانت من قبل الأب والأم أو من قبل أحدهما ، ( وعماتكم ) جمع العمة ، ويدخل فيهن جميع أخوات آبائك وأجدادك وإن علون ، ( وخالاتكم ) جمع خالة ، ويدخل فيهن جميع أخوات أمهاتك وجداتك ، ( وبنات الأخ وبنات الأخت ) ويدخل فيهن بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن ، وجملته : أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده ، والأصول هي الأمهات والجدات ، والفصول البنات وبنات الأولاد ، وفصول أول أصوله هي الأخوات وبنات الإخوة والأخوات ، وأول فصل من كل أصل بعده هن العمات والخالات وإن علون .وأما المحرمات بالرضاع فقوله تعالى : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة )وجملته : أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن سليمان بن يسار عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة " .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، قال : أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة ، فقالت عائشة رضي الله عنها فقلت : يا رسول الله لو كان فلان حيا - لعمها من الرضاعة - أيدخل علي؟ فقال رسول الله صلى الله نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة .وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين أحدهما : أن يكون قبل استكمال المولود حولين ، لقوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ( البقرة - 233 ) وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء " . وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم " ، وإنما يكون هذا في حال الصغر .وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : مدة الرضاع ثلاثون شهرا ، لقوله تعالى : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " ( الأحقاف - 15 ) ، وهو عند الأكثرين لأقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع وأقل مدة الحمل ستة أشهر .والشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات ، يروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها ، وبه قال عبد الله بن الزبير وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى .وذهب أكثر أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره يحرم ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب سفيان الثوري ، ومالك ، والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأصحاب الرأي .واحتج من ذهب إلى أن القليل لا يحرم بما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحرم المصة من الرضاع والمصتان " هكذا روى بعضهم هذا الحديث ، ورواه عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الصحيح .أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .وأما المحرمات بالصهرية فقوله : ( وأمهات نسائكم ) وجملته : أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب بنفس العقد .( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) والربائب جمع : ربيبة : وهي بنت المرأة ، سميت ربيبة لتربيته إياها ، وقوله : ( في حجوركم ) أي : في تربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته ، ( دخلتم بهن ) أي : جامعتموهن .ويحرم عليه أيضا بنات المنكوحة وبنات أولادها ، وإن سفلن من الرضاع والنسب بعد الدخول بالمنكوحة ، حتى لو فارق المنكوحة قبل الدخول بها أو ماتت جاز له أن ينكح بنتها ، [ ولا يجوز له أن ينكح أمها ] لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات وقال في تحريم الربائب .( فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) يعني : في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن أو متن ، وقال علي رضي الله عنه : أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت كالربيبة .( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) يعني : أزواج أبنائكم ، واحدتها : حليلة ، والذكر حليل ، سميا بذلك لأن كل واحد منهما [ حلال لصاحبه ، وقيل : سميا بذلك لأن كل واحد منهما ] يحل حيث يحل صاحبه من الحلول وهو النزول ، وقيل : إن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل وهو ضد العقل .وجملته : أنه يحرم على الرجل حلائل أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد ، وإنما قال " من أصلابكم " ليعلم أن حليلة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة زيد بن حارثة ، وكان زيد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم .والرابع من المحرمات بالصهرية : حليلة الأب والجد وإن علا فيحرم على الولد وولد الولد بنفس العقد سواء كان الأب من الرضاع أو من النسب ، لقوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) وقد سبق ذكره .وكل امرأة تحرم عليك بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين ، والوطء بشبهة النكاح ، حتى لو وطئ امرأة بالشبهة أو جارية بملك اليمين فتحرم على الواطئ أم الموطوءة وابنتها وتحرم الموطوءة على أب الواطئ وعلى ابنه .ولو زنى بامرأة فقد اختلف فيه أهل العلم : فذهبت جماعة إلى أنه لا تحرم على الزاني أم المزني بها وابنتها ، وتحرم الزانية على أب الزاني وابنه ، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والزهري ، وإليه ذهب مالك والشافعي رحمهم الله تعالى .وذهب قوم إلى التحريم ، يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة رضي الله عنهما ، وبه قال جابر بن زيد والحسن وهو قول أصحاب الرأي .ولو لمس امرأة بشهوة أو قبلها ، فهل يجعل ذلك كالدخول في إثبات حرمة المصاهرة؟ وكذلك لو لمس امرأة بشهوة فهل يجعل كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان ، أصحهما وهو قول أكثر أهل العلم : أنه تثبت به الحرمة ، والثاني : لا تثبت كما لا تثبت بالنظر بالشهوة .قوله تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح سواء كانت الأخوة بينهما بالنسب أو بالرضاع ، فإذا نكح امرأة ثم طلقها بائنا جاز له نكاح أختها ، وكذلك لو ملك أختين بملك اليمين لم يجز له أن يجمع بينهما في الوطء ، فإذا وطئ إحداهما لم يحل له وطء الأخرى حتى يحرم الأولى على نفسه .وكذلك لا يجوز أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها " .قوله تعالى : ( إلا ما قد سلف ) يعني : لكن ما مضى فهو معفو عنه ، لأنهم كانوا يفعلونه قبل الإسلام ، وقال عطاء والسدي : إلا ما كان من يعقوب عليه السلام فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراحيل أم يوسف ، وكانتا أختين . ( إن الله كان غفورا رحيما ) .