﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين. والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة. وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- ما يجب عليهم عمله بعد فراغهم من أعمال الحج فقال- تعالى-:فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً.المناسك: جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد. والمراد هنا العبادات التي تتعلق بالحج.قال ابن كثير: عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم- بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم- فيقول الرجل منهم. كان أبى يطعم الطعام ويحمل الديات ... ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية» .والمعنى: فإذا فرغتم من عباداتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله- تعالى- أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم، لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا أدى إلى الخزي في الدنيا والعقوبةفي الآخرة. وإن كان صدقا فإنه في الغالب يؤدى إلى العجب وكثرة الغرور، أما ذكر الله بإخلاص وخشوع فثوابه عظيم، وأجره كبير. وفضلا عن ذلك فإن المرء إذا كان لا ينسى أباه لأنه سبب وجوده فأولى به ثم أولى ألا ينسى الذي خلق أباه وهو الله رب العالمين.فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله- تعالى- والنهى عن التفاخر بالأحساب والأنساب.و «أو» هنا في معنى الإضراب والترقي إلى أعلى، لأنه.. سبحانه أمرهم أولا بأن يذكروه ذكرا يماثل ذكرهم لآبائهم ثم ترقى بهم إلى ما هو أعلى من ذلك وأسمى فطالبهم بأن يكون ذكرهم له- سبحانه- أكثر وأعظم من ذكرهم لآبائهم.قال صاحب الكشاف: وقوله: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: «كذكركم» كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا. أو في موضع نصب عطف على آباءَكُمْ بمعنى، أو أشد ذكرا من آبائكم.وبعد أن أمر- سبحانه- الناس بذكره، بين أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.أى: من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها، وهذا النوع ليس له في الآخرة من خَلاقٍ أى: نصيب وحظ من الخير.وهذا النوع من الناس هو الذي استولى عليه حب الدنيا وشهواتها ومتعها فأصبح لا يفكر إلا فيها، ولا يهتم إلا بها، صارفا نظره عن الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.والفاء في قوله: فَمِنَ النَّاسِ للتفصيل، لأن ما بعدها تقسيم للناس إلى فريقين.وحذف مفعول آتِنا للدلالة على تعميم المطلوب فهم يطلبون كل ما يمكن أن تصل إليه أيديهم من متاع الدنيا بدون تمييز بين حلال أو حرام.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( فإذا قضيتم مناسككم ) أي فرغتم من حجكم وذبحتم نسائككم أي ذبائحكم ، يقال نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى ( فاذكروا الله ) بالتكبير والتحميد والثناء عليه ( كذكركم آباءكم ) وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها فأمرهم الله تعالى بذكره وقال : فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم ، وإليهمقال ابن عباس وعطاء : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه لا بذكر غيره فيقول الله فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه أو أشد وسئل ابن عباس عن قوله ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) فقيل قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه قال ابن عباس : ليس كذلك ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما وقوله تعالى ( أو أشد ذكرا ) يعني وأشد ذكرا وبل أشد أي وأكثر ذكرا ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ) أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون اللهم أعطنا غنما وإبلا وبقرا ، وعبيدا وكان الرجل يقوم فيقول : يارب إن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته قال قتادة هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب ( وما له في الآخرة من خلاق ) حظ ونصيب