﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله, وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي كل طرق الخير, من صدقة على مسكين, أو قريب, أو إنفاق على من تجب مؤنته.وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال, وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة, الإعانة على تقوية المسلمين, وعلى توهية الشرك وأهله, وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح, لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله, إبطال للجهاد, وتسليط للأعداء, وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) كالتعليل لذلك، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد, إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح, فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك, ترك الجهاد في سبيل الله, أو النفقة فيه, الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف, أو محل مسبعة أو حيات, أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا, أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه, ممن ألقى بيده إلى التهلكة.ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله, واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض, التي في تركها هلاك للروح والدين.ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان, أمر بالإحسان عموما فقال: ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان, لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.ويدخل فيه الإحسان بالجاه, بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك, الإحسان بالأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس, من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم, وعيادة مرضاهم, وتشييع جنائزهم, وإرشاد ضالهم, وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك, مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضا, الإحسان في عبادة الله تعالى, وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: « أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك »فمن اتصف بهذه الصفات, كان من الذين قال الله فيهم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.ولما فرغ تعالى من [ ذكر ] أحكام الصيام فالجهاد, ذكر أحكام الحج فقال:
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين ببذل المال من أجل إعلاء كلمته، ونصرة دينه، فقال:وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.قال الإمام الرازي: الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح فلذلك لا يقال في المضيع:إنه منفق. فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله، فالمراد به طريق الدين، لأن السبيل هو الطريق، وسبيل الله هو دينه، فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء أكان إنفاقا في حج أو في صلة رحم أو غير ذلك، إلا أن الأقرب في هذه الآية- وقد تقدم ذكر الجهاد- أنه يراد به الإنفاق في الجهاد، وقوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق، وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيله، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال .وتُلْقُوا من الإلقاء وهو طرح الشيء من اليد.قال الجمل: والباء في قوله: بِأَيْدِيكُمْ تحتمل وجهين:أحدهما: أنها زائدة في المفعول به لأن ألقى يتعدى بنفسه، قال- تعالى-: فَأَلْقى عَصاهُ.والثاني: أن يضمن ألقى معنى فعل يتعدى بالباء فيتعدى تعديته فيكون المفعول به في الحقيقة هو المجرور بالباء تقديره، ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أى: طرحته على الأرض» .والمراد بالأيدى: الأنفس، من باب ذكر الجزء وإرادة الكل، لأن أكثر ظهور أفعال النفس تكون عن طريق اليد.والتهلكة: الهلاك والموت. أو كل شيء تصير عاقبته إليه. مصدر هلك يهلك هلكا وهلاكا وتهلكة.والجملة الكريمة معطوفة على جملة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. ألخ، لأنهم لما أمروا بقتال عدوهم، وكان أوفر منهم عدة وعددا، كلفهم بالاستعداد له عن طريق إنفاق الكثير من أموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله لأن هذا الإنفاق من أقوى الوسائل التي توصل إلى النصر.والمعنى: عليكم، أيها المؤمنون- أن تقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم، وأن تنفقوا من أجل إعلاء كلمة الله أموالكم، ولا تلقوا أنفسكم فيما فيه هلاككم في دين أو دنيا، بسبب ترككم الجهاد وبخلكم عن الإنفاق فيه مع القدرة على ذلك.ويشهد لهذا المعنى ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبى عمران قال: كنا بمدينة الروم القسطنطينية- فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم. فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل وبعد هذا الحديث المحكم عن القتال في سبيل الله، وبيان أحكامه بالنسبة للأشهر الحرم وللبيت الحرام، ساق القرآن في بضع آيات جملة من الأحكام والآداب التي تتعلق بفريضة الحج، إذ القتال جهاد لحماية الأمة الإسلامية من الخارج، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الأمة من الداخل عن طريق تجميع أبنائها على اختلاف ديارهم في مكان واحد ليشهدوا منافع لهم، وليتعاونوا على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. استمع إلى سورة البقرة وهي تحدثك عن بعض أحكام الحج وآدابه فتقول:
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( وأنفقوا في سبيل الله ) أراد به الجهاد وكل خير هو في سبيل الله ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قيل الباء في قوله تعالى ( بأيديكم ) زائدة يريد ولا تلقوا أيديكم أي أنفسكم ( إلى التهلكة ) عبر عن النفس بالأيدي كقوله تعالى " بما كسبت أيديكم " ( 30 - الشورى ) أي بما كسبتم وقيل الباء في موضعها وفيه حذف ، أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك وقيل التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك أي ولا تأخذوا في ذلك وقيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلا في الشرك واختلفوا في تأويل هذه الآية فقال بعضهم هذا في البخل وترك الإنفاق يقول ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) بترك الإنفاق في سبيل الله وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة وعطاء . وقال ابن عباس : في هذه الآية أنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئا وقال السدي بها أنفق في سبيل الله ولو عقالا ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ولا تقل ليس عندي شيء ، وقال سعيد بن المسيب ومقاتل بن حيان : لما أمر الله تعالى بالإنفاق قال رجل أمرنا بالنفقة في سبيل الله ولو أنفقنا أموالنا بقينا فقراء فأنزل الله هذه الآية وقال مجاهد فيها لا يمنعنكم من نفقة في حق خيفة العيلةأخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أخبرنا أبو غسان أخبرنا خالد بن عبد الله الواسطي أخبرنا واصل مولى أبي عيينة عن بشار بن أبي سيف عن الوليد بن عبد الرحمن عن عياض بن غضيف قال أتينا أبا عبيدة نعوده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ومن أنفق نفقة على أهله فالحسنة بعشر أمثالها "وقال زيد بن أسلم : كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما أن كانوا عيالا فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله ومن لم يكن عنده شيء ينفقه فلا يخرج بغير نفقة ولا قوت فيلقي بيده إلى التهلكة فالتهلكة أن يهلك من الجوع والعطش أو بالمشي ، وقيل أنزلت الآية في ترك الجهاد قال أبو أيوب الأنصاري : نزلت فينا معشر الأنصار وذلك أن الله تعالى لما أعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام ونصر الله نبيه فلو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا فأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) فالتهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية فتوفي هناك ودفن في أصل سور القسطنطينية وهم يستسقون بهوروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " .وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله تعالى عن ذلك قال الله تعالى : " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " ( 87 - يوسف )قوله تعالى : ( وأحسنوا ) [ أي أحسنوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على الفقراء ( إن الله يحب المحسنين ) ] .