﴿ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: شكا، وريبا ماكثا في قلوبهم، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم، ويخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو اللّه عنهم، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم، ونفاقا إلى نفاقهم.وَاللَّهُ عَلِيمٌ بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، خفيها وجليها، وبما أسره العباد، وأعلنوه.حَكِيمٌ لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد .وفي هذه الآيات فوائد عدة:منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه.ومنها: أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى.ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها.كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله.ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها.ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء" حتى قال اللّه فيه:لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ .ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه.ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، وهي:كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله، فإنه محرم ممنوع منه، وعكسه بعكسه.ومنها: أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات.ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى.ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم.والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال- تعالى- لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.الريبة: اسم من الريب بمعنى الشك والقلق والحيرة، وتقطع- بفتح التاء- أصلها تتقطع فحذفت إحدى التاءين، من التقطع بمعنى التمزق. وقرأ بعضهم. «تقطع» - بضم التاء- من التقطيع بمعنى التفريق والتمزيق.والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال، والمستثنى منه محذوف، والتقدير: لا يزال ما بناه هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفوسهم في كل وقت وحال إلا في وقت واحد وهو وقت أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى: أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق، ويجدون مصيرهم الأليم.والسبب في أن هذا البناء كان مثار ريبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه، أنهم بنوه بنية سيئة، ولتلك المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى ... فكانوا يخشون أن يطلع الله نبيهم على مقاصدهم الذميمة، فهذه الخشية أورثتهم القلق والريبة، فلما أطلع الله- تعالى- نبيه على أغراضهم، وتم هدم مسجد الضرار، وانهار الجرف المتداعي المتساقط، استمر قلقهم وريبهم لأنهم لا يدرون بعد ذلك ماذا سيفعل المؤمنون بهم.وهكذا شأن الماكرين في كل زمان ومكان، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف مكرهم، ويظهر خداعهم.وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم.أى: والله- تعالى- عليم بكل شيء في هذا الكون، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا: حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفي صنعه بهم، وسيجازيهم يوم القيام بما يستحقونه من عقاب.هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:1- وجوب بناء المساجد على تقوى من الله ورضوان، لأنها إذا بنيت على هذا الأساس، كانت محل القبول والثواب من الله، أما إذا بنيت لأى مقصد يتنافى مع آداب الإسلام وأحكامه وتشريعاته، فإنها تكون بعيدة عن رضا الله- تعالى- وقبوله.قال بعض العلماء، دلت الآيات على أن كل مسجد بنى على ما بنى عليه مسجد الضرار، أنه لا حكم له ولا حركة، ولا يصح الوقف عليه. وقد حرق الراضي بالله- الخليفة العباسي- كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة .وقال الزمخشري: قيل كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار.وعن عطاء: لما فتح الله. تعالى. الأمصار على عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضار أحدهما صاحبه .2- أن مسجد قباء هو المقصود بقوله- تعالى-: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ... وذلك لأن سياق الآيات في الحديث عنه، وفي بيان أحقية الصلاة فيه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبا وماشيا ويصلى فيه ركعتين.ولا منافاة بين كون مسجد قباء هو المقصود هنا، وبين الأحاديث التي وردت في أن المسجد الذي أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان، هو المسجد النبوي، لأن كليهما قد أسس على ذلك.قال الإمام ابن كثير: وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس، وعروة بن الزبير، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وقتادة.وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح.ولا منافاة بين الآية وبين هذا، أنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى» .3- أن المحافظة على الطهارة من الصفات التي يحبها الله- تعالى- فقد قال- تعالى-: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها: ما جاء عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن مساعدة فقال له: «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به» ؟.فقال: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه.فقال صلى الله عليه وسلم: «هو هذا»4- كذلك يؤخذ من الآيات الكريمة، استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحة، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات .وبعد أن بين- سبحانه- أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك، أتبع ذلك بالترغيب في الجهاد وفي بيان فضله فقال- تعالى-:
﴿ تفسير البغوي ﴾
( لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة ) أي : شكا ونفاقا ، ( في قلوبهم ) يحسبون أنهم كانوا في بنيانه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى . قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وقال الكلبي : حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه . وقال السدي : لا يزال هدم بنائهم ريبة وحزازة وغيظا في قلوبهم .( إلا أن تقطع قلوبهم ) أي : تتصدع قلوبهم فيموتوا . قرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، وحمزة ، وحفص : " تقطع " بفتح التاء أي : تتقطع . والآخرون بضمها . وقرأ يعقوب وحده : " إلى أن " خفيف ، على الغاية ، " تقطع " بضم التاء ، خفيف ، من القطع يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة : لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا . ( والله عليم حكيم ) .