﴿ ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم، ولم يهتد إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه. ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما، فإنه لا يتم هداه, إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره ضلال غيره. وقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا أي: مآلكم يوم القيامة، واجتماعكم بين يدي الله تعالى. فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير وشر.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله عَلَيْكُمْ اسم فعل أمر بمعنى: الزموا وقوله: أَنْفُسَكُمْ منصوب على الإغراء بقوله: عَلَيْكُمْ.قال الجمل: واختلف النحويون في الضمير المتصل بها- أى بكلمة عَلَيْكُمْ- والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء» » .والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا، الزموا العمل بطاعة الله، بأن تؤدوا ما أمركم به، وتنتهوا عما نهاكم عنه، وأنتم بعد ذلك «لا يضركم من ضل إذا اهتديتم» أى: لا يضركم ضلال من ضل وغوى، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر. فإن أبى هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله، فإن مصيركم ومرجعكم جميعا إلى الله- تعالى- وحده فَيُنَبِّئُكُمْ يوم القيامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من خير أو شر، ويجازى أهل الخير بما يستحقون من ثواب، ويجازى أهل الشر بما يستحقون من عقاب.هذا، وقد يقول قائل: إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ماداموا قد أصلحوا أنفسهم لأنها تقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فهل هذا الفهم مقبول؟والجواب على ذلك، أن هذا الفهم ليس مقبولا، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم.فكأنها تقول لهم: إنكم- أيها المؤمنون- إذا قمتم بما يجب عليكم، لا يضركم تقصير غيركم. ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح.أى أن الهداية التي ذكرها- سبحانه- في قولهم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر.وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يَضُرُّكُمْ الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين. وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه .ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمها بعض الناس فهما غير سليم- حتى في الصدر الأول من الإسلام.قال القرطبي: روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبى حازم قال: خطبنا أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- فقال: أيها الناس- إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» .وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبى أمية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ فقال: أية آية؟ قلت: قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة. وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.وفي رواية قيل يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال «بل أجر خمسين منكم» .وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنى لأصغر القوم فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فقلت أنا: أليس الله يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا: تنزع آية من القرآن لا تعرفها.ولا تدرى ما تأويلها- حتى تمنيت أنى لم أكن تكلمت- ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدرى ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت» .والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إنها- كما قال الحاكم- لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى، لأن قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه: الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله والعقليات المؤيدة بها، ودعوة الإخوان إلى ذلك، بإقامة الحجج ودفع الشبه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك» .ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإنه- سبحانه- قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم، يعنى أهل دينكم فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعنى بأن يعظ بعضكم بعضا. ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات» ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإسلامى فتحدثت عن التشريع الخاص بالإشهاد على الوصية في حالة السفر، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل الحق إلى أهله كاملا غير منقوص فقال- تعالى:
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) وتضعونها في غير موضعها ولا تدرون ما هي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه " .وفي رواية " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله سبحانه وتعالى عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله عز وجل خياركم فلا يستجاب [ لكم ] " .قال أبو عبيد : خاف الصديق أن يتأول الناس الآية على غير متأولها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف [ والنهي عن المنكر ] فأعلمهم أنها ليست كذلك وأن الذي أذن في الإمساك عن تغييره من المنكر ، هو الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم يتدينون به ، وقد صولحوا عليه ، فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام فلا يدخل فيه .وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الآية في اليهود والنصارى ، يعني : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب فخذوا منهم الجزية واتركوهم .وعن ابن مسعود قال في هذه الآية : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فإن رد عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن قد نزل منه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد رسول الله بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ، ما ذكر من الحساب والجنة والنار ، فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فأمروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا ، وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآيةأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا أبو جعفر أحمد بن محمد العنزي أخبرنا عيسى بن نصر أنا عبد الله بن المبارك أنا عتبة بن أبي حكيم حدثني عمرو بن جارية اللخمي أنا أبو أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قلت : قول الله عز وجل ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا بد لك منه فعليك نفسك ودع أمر العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر ، فمن صبر فيهن قبض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله " قال ابن المبارك : وزادني غيره قالوا : يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال : " أجر خمسين منكم " .وقيل : نزلت في أهل الأهواء ، قال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل الأهواء فذكر شيئا من أمره ، فقال صفوان ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه ( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )قوله عز وجل : ( إلى الله مرجعكم جميعا ) الضال والمهتدي ، ( فينبئكم بما كنتم تعملون )