أو يكون لك بيت من ذهب، أو تصعد في درج إلى السماء، ولن نصدِّقك في صعودك حتى تعود، ومعك كتاب من الله منشور نقرأ فيه أنك رسول الله حقا. قل -أيها الرسول- متعجبًا مِن تعنُّت هؤلاء الكفار: سبحان ربي!! هل أنا إلا عبد من عباده مبلِّغ رسالته؟ فكيف أقدر على فعل ما تطلبون؟
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«أو يكون لك بيت من زخرف» ذهب «أو ترقى» تصعد «في السماء» بسُلَّم «ولن نؤمن لرقيك» لو رقيت فيها «حتى تنزل علينا» منها «كتابا» فيه تصديقك «نقرؤه قل» لهم «سبحان ربي» تعجب «هل» ما «كنت إلا بشرا رسولاً» كسائر الرسل ولم يكونوا يأتون بآية إلا بإذن الله.
﴿ تفسير السعدي ﴾
تفسير الآيتين 93 و 94 : أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي: مزخرف بالذهب وغيره أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ رقيًا حسيًا، و ومع هذا ف وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات؛ وكلام أسفه الناس وأظلمهم، المتضمنة لرد الحق وسوء الأدب مع الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يأتي بالآيات، أمره الله أن ينزهه فقال: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي عما تقولون علوًا كبيرًا، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة، وآرائهم الضالة. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ليس بيده شيء من الأمر.وهذا السبب الذي منع أكثر الناس من الإيمان، حيث كانت الرسل التي ترسل إليهم من جنسهم بشرًا.وهذا من رحمته بهم، أن أرسل إليهم بشرًا منهم، فإنهم لا يطيقون التلقي من الملائكة.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( أو يكون لك بيت من زخرف ) أي : من ذهب وأصله الزينة ( أو ترقى ) تصعد ( في السماء ) هذا قول عبد الله بن أبي أمية ( ولن نؤمن لرقيك ) لصعودك ( حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) أمرنا فيه باتباعك ( قل سبحان ربي ) وقرأ ابن كثير وابن عامر " قال " يعني محمدا وقرأ الآخرون على الأمر أي : قل يا محمد ( هل كنت إلا بشرا رسولا ) أمره بتنزيهه وتمجيده على معنى أنه لو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل ولكن الله لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر وما أنا إلا بشر وليس ما سألتم في طوق البشر .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم حكى- سبحانه- بقية مطالبهم التي لا يقرها عقل سليم فقال: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ.أى: من ذهب، والزخرف يطلق في الأصل على الزينة، وأطلق هنا على الذهب لأن الذهب أثمن ما يتزين به في العادة.أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أى: تصعد إليها. يقال: رقى فلان في السلم يرقى رقيا ورقيا أى صعد، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ وصعودك إليها مع مشاهدتنا لذلك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا منها كِتاباً نَقْرَؤُهُ ونفهم ما فيه، أى: يكون هذا الكتاب بلغتنا التي نفهمها وبأسلوب مخاطباتنا، وفيه ما يدل دلالة قاطعة على أنك رسول من عند الله- تعالى-، وما يدعونا إلى الإيمان بك.ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات، بأن أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم، فقال: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا.أى: قل- أيها الرسول الكريم- على سبيل التعجب من سوء تفكير هؤلاء الجاحدين:يا سبحان الله هل أنا إلا بشر كسائر البشر، ورسول كسائر الرسل، وليس من شأن من كان كذلك أن يأتى بتلك المطالب المتعنتة التي طلبتموها، وإنما من شأنه أن يبلغ ما أمره الله بتبليغه من هدايات. تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل. إلى نور الإيمان والعلم.فالاستفهام في قوله هَلْ كُنْتُ ... للنفي، أى: ما كنت إلا رسولا كسائر الرسل، وبشرا مثلهم.وقوله سُبْحانَ رَبِّي يفيد التعجيب من فرط حماقتهم، ومن بالغ جهلهم، حيث طلبوا تلك المطالب، التي تضمنت ما يعتبر من أعظم المستحيلات، كطلبهم إتيان الله- عز وجل- والملائكة إليهم، ورؤيتهم لذاته- سبحانه-، على سبيل المعاينة والمقابلة.وهذا التعنت والعناد الذي حكاه الله- تعالى- عن هؤلاء الجاحدين، قد جاء ما يشبهه في آيات أخرى. كما جاء ما يدل على أنهم حتى لو أعطاهم الله- تعالى- مطالبهم.لما آمنوا، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ .وقوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ .وقوله- عز وجل-: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ .ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك شبهة من شبهاتهم الفاسدة والمتعددة، وهي زعمهم أن الرسول لا يكون من البشر بل يكون ملكا. وقد أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يرد عليهم بما يبطل مدعاهم فقال:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
( أو يكون لك بيت من زخرف ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هو الذهب . وكذلك هو في قراءة ابن مسعود : " أو يكون لك بيت من ذهب " ، ( أو ترقى في السماء ) أي : تصعد في سلم ونحن ننظر إليك ( ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) قال مجاهد : أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة : هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، تصبح موضوعة عند رأسه .وقوله : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) أي : سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته ، بل هو الفعال لما يشاء ، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم ، وإن شاء لم يجبكم ، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وقد فعلت ذلك ، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل .قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرض ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يوما ، وأجوع يوما - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " .ورواه الترمذي في " الزهد " عن سويد بن نصر عن ابن المبارك ، به وقال : هذا حديث حسن . وعلي بن يزيد يضعف في الحديث .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب ; عن ابن عباس وغيره . وأصله الزينة . والمزخرف المزين . وزخارف الماء طرائقه . وقال مجاهد : كنت لا أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود " بيت من ذهب " أي نحن لا ننقاد لك مع هذا الفقر الذي نرى .أو ترقى في السماء أي تصعد ; يقال : رقيت في السلم أرقى رقيا ورقيا إذا صعدت . وارتقيت مثله .ولن نؤمن لرقيك أي من أجل رقيك ، وهو مصدر ; نحو مضى يمضي مضيا ، وهوى يهوي هويا ، كذلك رقي يرقى رقيا .حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه أي كتابا من الله - تعالى - إلى كل رجل منا ; كما قال - تعالى - : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة .قل سبحان ربي وقرأ أهل مكة والشام " قال سبحان ربي " يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أي قال ذلك تنزيها لله - عز وجل - عن أن يعجز عن شيء وعن أن يعترض عليه في فعل . وقيل : هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم . الباقون قل على الأمر ; أي قل لهم يا محمدهل كنت إلا بشرا رسولا أي ما أنا إلا بشرا رسولا أتبع ما يوحى إلي من ربي ، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر ، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات وقال بعض الملحدين : ليس هذا جوابا مقنعا ، وغلطوا ; لأنه أجابهم فقال : إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني ، وليس لي أن أتخير على ربي ، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه ، وسبيلي سبيلهم ، وكانوا يقتصرون على ما أتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم ، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها ، ولو وجب على الله أن يأتيهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل ، ولوجب لكل إنسان أن يقول : لا أومن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري . وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير إلى الناس . وإنما التدبير إلى الله - تعالى - .
﴿ تفسير الطبري ﴾
يقول تعالى ذكره مخبرا عن المشركين الذين ذكرنا أمرهم في هذه الآيات: أو يكون لك يا محمد بيت من ذهب ، وهو الزخرف.كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي ، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) يقول: بيت من ذهب.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( مِنْ زُخْرُفٍ ) قال: من ذهب.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) والزخرف هنا: الذهب.حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) قال: من ذهب.حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن رجل، عن الحكم قال: قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود: " أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ".حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، قال: لم أدر ما الزخرف، حتى سمعنا في قراءة عبد الله بن مسعود: " بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ".وقوله ( أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ) يعني: أو تصعد في درج إلى السماء، وإنما قيل في السماء، وإنما يرقى إليها لا فيها، لأن القوم قالوا: أو ترقى في سلم إلى السماء، فأدخلت " في" في الكلام ليدلّ على معنى الكلام، يقال: رَقِيت في السلم، فأنا أرقَى رَقيا ورِقيا ورُقيا، كما قال الشاعر:أنتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رَقْيَ الدَّرْجعَلى الكلالِ والمَشِيبِ والعَرْجِ (6)وقوله ( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) يقول: ولن نصدّقك من أجل رُقِيك إلى السماء ( حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا ) منشورا نَقْرَؤُهُ فيه أمرنا باتباعك والإيمان بك.كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قالا ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ) قال: من ربّ العالمين إلى فلان، عند كلّ رجل صحيفة تصبح عند رأسه يقرؤها.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه، إلا أنه قال: كتابا نقرؤه من ربّ العالمين، وقال أيضا: تصبح عند رأسه موضوعة يقرؤها.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ) : أي كتابا خاصا نؤمر فيه باتباعك.وقوله ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، القائلين لك هذه الأقوال، تنزيها لله عما يصفونه به، وتعظيما له من أن يؤتى به وملائكته، أو يكون لي سبيل إلى شيء مما تسألونيه ( هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا ) يقول: هل أنا إلا عبد من عبيده من بني آدم، فكيف أقدر أن أفعل ما سألتموني من هذه الأمور، وإنما يقدر عليها خالقي وخالقكم، وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم، والذي سألتموني أن أفعله بيد الله الذي أنا وأنتم عبيد له، لا يقدر على ذلك غيره.وهذا الكلام الذي أخبر الله أنه كلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر كان من ملإ من قريش اجتمعوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاجَّته، فكلَّموه بما أخبر الله عنهم في هذه الآيات...* ذكر تسمية الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك منهم والسبب الذي من أجله ناظروه به (7) حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأميَّة بن خلف، والعاص بن وائل، ونُبَيها ومُنَبها ابني الحجاج السَّهميين اجتمعوا، أو من اجتمع منهم، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعْذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظنّ أنه بدا لهم في أمره بَدَاء، وكان عليهم حريصا، يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عَنَتهم ، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنُعْذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء، وعِبْت الدين، وسفَّهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا ،وإن كنت تريد به مُلكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجنّ: الرئي ، فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطّب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بِي ما تَقُولُونَ، ما جِئتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أطلُبُ أمْوِالَكُمْ، ولا الشَّرَفَ فِيكُمْ وَلا المُلْكَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولا وَأَنزلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا ولا أشدّ عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيِّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليفجِّر (8) لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصَيّ بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول، حقّ هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك، وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك بالحقّ رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بِهذَا بُعِثْتُ، إنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ الله بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فقد بَلَّغْتُكُمْ ما أُرْسلْتُ بِهِ إليكم، فإنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حظُّكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَليَّ أصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا، فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك بما تقول، ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بِفاعِلٍ، ما أنا بالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هذَا، وَما بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِهذَا، وَلَكِنَّ الله بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فإنْ تَقْبَلُوا ما جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حظُّكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، وإنْ تَرُدُّوهُ عَلىَّ أَصْبِرْ لأمْرِ الله حتى يَحْكُمَ الله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلكَ إلى اللهِ إنْ شاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذلكَ ، فقالوا: يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك، عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدّم إليك، ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه (9) إنما يعلِّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا، أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعيد الملائكة، وهنّ بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أميَّة بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهو ابن عمته هو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا، ليعرفوا منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوّفهم به من العذاب، فوالله لا أومن لك أبدا، حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بنسخة منشورة (10) معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننتُ ألا أصدّقك، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسيفا لما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه، فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسنّ له غدا بحجر قدر ما أطيق حَمْله، فإذا سجد في صلاته فضخت رأسه به.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، قال: ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، بنحوه، إلا أنه قال: وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أبناء بني عبد الدار، وأبا البختريّ بن هشام.حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد، قال: قلت له في قوله تعالى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا قال: قلت له: نزلت في عبد الله بن أبي أمية، قال: قد زعموا ذلك.------------------------الهوامش :(6) البيت في (اللسان: رقي) قال: ورقيت في السلم رقيا (بوزن سقف) ورقيا (بوزن فعول) إذا صعدت، وارتقيت مثله، أنشد ابن بري: "أنت الذي... البيت، ولم ينسبه إلى قائله".(7) انظر هذا الحديث في سيرة ابن هشام (طبعة الحلبي 1: 315) وفيه اختلاف يسير في بعض الألفاظ، وفي تفسير القرطبي (10: 328-330).(8) في بعض نسخ السيرة، وفي تفسير القرطبي: "وليخرق".(9) في السيرة والقرطبي: "إنه قد بلغنا أنك إنما.. إلخ".(10) في تفسير القرطبي (10: 330): "ثم تأتي معك بصك معه أربعة... إلخ". وفي السيرة: "ثم تأتي معك أربعة.. إلخ".
﴿ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾