واذكر حين قال موسى لخادمه يوشع بن نون: لا أزال أتابع السير حتى أصل إلى ملتقى البحرين، أو أسير زمنًا طويلا حتى أصل إلى العبد الصالح؛ لأتعلم منه ما ليس عندي من العلم.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«و» اذكر «إذ قال موسى» هو ابن عمران «لفتاهُ» يوشع بن نون كان يتبعه ويخدمه ويأخذ عنه العلم «لا أبرح» لا أزال أسير «حتى أبلغ مجمع البحرين» ملتقى بحر الروم وبحر فارس مما يلي المشرق أي المكان الجامع لذلك «أو أمضي حقبا» دهرا طويلاً في بلوغه إن بعد.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه الله بعد ذلك:- لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ْ أي: لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) عامة أهل العلم قالوا : إنه موسى بن عمران . وقال بعضهم : هو موسى بن ميشا من أولاد يوسف والأول أصح .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس : كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم . فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله تعالى عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به وقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا وقال موسى : ذلك ما كنا نبغ قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر عليه السلام : وأنى بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا ، قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى ، إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يضح إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا! قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت الأولى من موسى نسيانا [ والوسطى شرطا والثالثة عمدا " ] قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر : ما [ نقص ] علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى : أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال : وهذه أشد من الأولى قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ، قال : كان مائلا فقال الخضر بيده فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال : " هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما " .قال سعيد بن جبير : فكان ابن عباس يقرأ : " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا " ، وكان يقرأ : " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " .وعن سعيد بن جبير في رواية أخرى عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " [ قام موسى ] رسول الله فذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال : لا - فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله - قيل : بلى [ عبدنا الخضر ] قال : يا رب وأين؟ قال : بمجمع البحرين [ قال : رب اجعل لي علما أعلم ذلك به ] قال : فخذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح وفي رواية قيل له : تزود حوتا مالحا فإنه حيث تفقد الحوت فأخذ حوتا فجعله في مكتل " .رجعنا إلى التفسير; قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لفتاه ) يوشع بن نون ( لا أبرح ) أي لا أزال أسير ( حتى أبلغ مجمع البحرين ) قال قتادة : بحر فارس وبحر الروم مما يلي المشرق . وقال محمد بن كعب طنجة . وقال أبي بن كعب : إفريقية .( أو أمضي حقبا ) وإن كان حقبا أي دهرا طويلا وزمانا ، وجمعه أحقاب ، والحقب : جمع الحقب . قال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة فحملا خبزا وسمكة مالحة حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلا وعندها عين تسمى ماء الحياة لا يصيب ذلك الماء شيئا إلا حي فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
قال الإمام الرازي ما ملخصه: اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله- تعالى- في هذه السورة، وهي أن موسى- عليه السلام- ذهب إلى الخضر ليتعلم منه، وهذا وإن كان كلاما مستقلا في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين: أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين، فهو أن موسى مع كثرة علمه وعمله.. ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له.وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف، فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة: «إن أخبركم محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا وهذا ليس بشيء. لأنه لا يلزم من كونه نبيا أن يكون عالما بجميع القصص كما أن كون موسى نبيا لم يمنعه من الذهاب ليتعلم منه» .وموسى- عليه السلام- هو ابن عمران، وهو أحد أولى العزم من الرسل، وينتهى نسبه إلى يعقوب- عليه السلام-.وفتاه: هو يوشع بن نون، وسمى بذلك لأنه كان ملازما لموسى- عليه السلام- ويأخذ عنه العلم.وقوله: لا أَبْرَحُ أى: لا أزال سائرا. ومنه قوله- تعالى- لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ. من برح الناقص.قال الجمل: واسمها مستتر وجوبا، وخبرها محذوف، تقديره: لا أبرح سائرا، وقوله حَتَّى أَبْلُغَ.. غاية لهذا المقدر. ويحتمل أنها تامة فلا تستدعى خبرا، بمعنى: لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه حتى أبلغ..» .ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: المكان الذي فيه يلتقى البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط.قال الآلوسى: والمجمع: الملتقى، وهو اسم مكان.. والبحران: بحر فارس والروم، كما روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما وملتقاهما: مما يلي المشرق ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما.. وقيل البحران: بحر الأردن وبحر القلزم..» .وقال بعض العلماء: والأرجح- والله أعلم- أن مجمع البحرين: بحر الروم وبحر القلزم.أى: البحر الأبيض والبحر الأحمر. ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح. أو أنه مجمع خليجى العقبة والسويس في البحر الأحمر. فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر، وعلى أية حال فقد تركها القرآن مجملة فنكتفى بهذه الإشارة» .والمعنى: واذكر- أيها الرسول الكريم- لقومك لكي يعتبروا ويتعظوا وقت أن قال أخوك موسى- عليه السلام- لفتاه يوشع بن نون، اصحبنى في رحلتي هذه فإنى لا أزال سائرا حتى أصل إلى مكان التقاء البحرين، فأجد فيه بغيتي ومقصدي، «أو أمضى» في سيرى «حقبا» أى: زمنا طويلا، إن لم أجد ما أبتغيه هناك.والحقب- بضم الحاء والقاف- جمعه أحقاب، وفي معناه: الحقبة- بكسر الحاء- وجمعها حقب- كسدرة وسدر- والحقبة- بضم الحاء- وجمعها: حقب كغرفة وغرف- قيل: مدتها ثمانون عاما. وقيل سبعون. وقيل: زمان من الدهر مبهم غير محدد.والآية الكريمة تدل بأسلوبها البليغ، على أن موسى- عليه السلام- كان مصمما على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة في سبيل ذلك، ومهما يكن الزمن الذي يقطعه في سبيل الوصول إلى غايته، وهو يعبر عن هذا التصميم بما حكاه عنه القرآن بقوله: «أو أمضى حقبا» .وقد أشار الآلوسى- رحمه الله- إلى سبب تصميم موسى على هذه الرحلة فقال: وكأن منشأ عزيمة موسى- عليه السلام- على ما ذكره ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبى بن كعب، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن موسى- عليه السلام- قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل: أى الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعاتبه الله- تعالى- عليه، إذ لم يرد العلم إليه- سبحانه- فأوحى الله- تعالى- إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.وفي رواية أخرى عنه عن أبى- أيضا- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى- عليه السلام- سأل ربه فقال: أى رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم منى فدلني عليه فقال له:«نعم في عبادي من هو أعلم منك، ثم نعت له مكانه وأذن له في لقائه» .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
سبب قول موسى [ عليه السلام ] لفتاه - وهو يوشع بن نون - هذا الكلام : أنه ذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين ، عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب الذهاب إليه ، وقال لفتاه ذلك : ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) أي لا أزال سائرا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ، قال الفرزدق :فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائمقال قتادة وغير واحد : وهما بحر فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب .وقال محمد بن كعب القرظي : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ، فالله أعلم .وقوله : ( أو أمضي حقبا ) أي : ولو أني أسير حقبا من الزمان .قال ابن جرير ، رحمه الله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة . ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحقب ثمانون سنة . وقال مجاهد : سبعون خريفا . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( أو أمضي حقبا ) قال : دهرا . وقال قتادة ، وابن زيد ، مثل ذلك .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فيه أربع مسائل :الأولى : قوله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره . وقالت فرقة منها نوف البكالي : إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران . وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره . وفتاه : هو يوشع بن نون . وقد مضى ذكره في " المائدة " وآخر " يوسف " . ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون .لا أبرح أي لا أزال أسير ; قال الشاعر :وأبرح ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقا مجيداوقيل : لا أبرح لا أفارقك .حتى أبلغ مجمع البحرين أي ملتقاهما . قال قتادة : وهو بحر فارس والروم ; وقاله مجاهد . قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول . وقيل : هما بحر الأردن وبحر القلزم . وقيل : مجمع البحرين عند طنجة ; قال محمد بن كعب . وروي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية . وقال السدي : الكر والرس بأرمينية .وقال بعض أهل العلم : هو بحر الأندلس من البحر المحيط ; حكاه النقاش ; وهذا مما يذكر كثيرا . وقالت فرقة : إنما هما موسى والخضر ; وهذا قول ضعيف ; وحكي عن ابن عباس ، ولا يصح ; فإن الأمر بين من الأحاديث أنه إنما وسم له بحر ماء .وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن موسى - عليه السلام - قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . . . وذكر الحديث ، واللفظ للبخاري . وقال ابن عباس : لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكرهم بأيام الله ، فخطب قومه فذكرهم ما أتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوهم ، واستخلفهم في الأرض ، ثم قال : وكلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاه لنفسه ، وألقى علي محبة منه ، وآتاكم من كل ما سألتموه ، فجعلكم أفضل أهل الأرض ، ورزقكم العز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والتوراة بعد أن كنتم جهالا ; فقال له رجل من بني إسرائيل : عرفنا الذي تقول ، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا ; فعتب عليه حين لم يرد العلم إليه ، فبعث الله جبريل : أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي ؟ بلى إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك . . . ) وذكر الحديث .قال علماؤنا : قوله في الحديث ( هو أعلم منك ) أي بأحكام وقائع مفصلة ، وحكم نوازل معينة ، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى : إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت ، وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر ، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة ، وهمته العالية ، لتحصيل علم ما لم يعلم ، وللقاء من قيل فيه : إنه أعلم منك ; فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف السبيل ، فأمر بالارتحال على كل حال وقيل له احمل معك حوتا مالحا في مكتل - وهو الزنبيل - فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل ، فانطلق مع فتاه لما واتاه ، مجتهدا طلبا قائلا : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباالثانية : في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب ، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم ، وذلك كان في دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح ، وحصلوا على السعي الناجح ، فرسخت لهم في العلوم أقدام ، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال البخاري : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث .الثالثة : وإذ قال موسى لفتاه للعلماء فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان معه يخدمه ، والفتى في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي فهذا ندب إلى التواضع ; وقد تقدم هذا في " يوسف " . والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف - عليه السلام - . ويقال : هو ابن أخت موسى - عليه السلام - . وقيل : إنما سمي فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا ; وهذا معنى الأول . وقيل : إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد ، قال الله - تعالى - : وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم وقال : تراود فتاها عن نفسه قال ابن العربي : فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد ، وفي الحديث : ( أنه كان يوشع بن نون ) وفي التفسير : أنه ابن أخته ، وهذا كله مما لا يقطع به ، والتوقف فيه أسلم .الرابعة : أو أمضي حقبا بضم الحاء والقاف وهو الدهر ، والجمع أحقاب . وقد تسكن قافه فيقال حقب . وهو ثمانون سنة . ويقال : أكثر من ذلك . والجمع حقاب . والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون . قال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة . مجاهد : سبعون خريفا . قتادة : زمان ، النحاس : الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود ; كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود : وجمعه أحقاب .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: ( لا أَبْرَحُ ) يقول: لا أزال أسير ( حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) .كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( لا أَبْرَحُ ) قال: لا أنتهي ، وقيل: عنى بقوله: ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) اجتماع بحر فارس والروم، والمجمع: مصدر من قولهم: جمع يجمع.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) والبحران: بحر فارس وبحر الروم، وبحر الروم مما يلي المغرب، وبحر فارس مما يلي المشرق.حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال: بحر فارس، وبحر الروم.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال: بحر الروم، وبحر فارس، أحدهما قِبَل المشرق، والآخر قِبَل المغرب.حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ). (4)حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن الضريس، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، في قوله: ( لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال: طنجة.وقوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) يقول: أو أسير زمانا ودهرا، وهو واحد، ويجمع كثيره وقليله: أحقاب وقد تقول العرب: كنت عنده حقبة من الدهر: ويجمعونها حُقبا. وكان بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله ( لا أَبْرَحُ ) : أي لا أزول، ويستشهد لقوله ذلك ببيت الفرزدق:فَما بَرِحُوا حتى تَهادَتْ نِساؤُهُمْببطْحَاءِ ذِي قارٍ عِيابَ اللَّطائِمِ (5)يقول: ما زالوا.وذكر بعض أهل العلم بكلام العرب، أن الحقب في لغة قيس: سنة ، فأما أهل التأويل فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره، وهو أنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو ثمانون سنة.* ذكر من قال ذلك: حُدثت عن هشيم، قال: ثنا أبو بلج، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو، قال: الحقب: ثمانون سنة.وقال آخرون: هو سبعون سنة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال: سبعين خريفا.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.وقال آخرون في ذلك، بنحو الذي قلنا.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال: دهرا.حدثنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (حُقُبا) قال: الحقب: زمان.حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال: الحقب: الزمان.
﴿ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ﴾