وما خلقت الجن والإنس وبعثت جميع الرسل إلا لغاية سامية، هي عبادتي وحدي دون مَن سواي.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين، لأن الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك: بريت هذا القلم لأكتب به، فإنك قد لا تكتب به.
﴿ تفسير السعدي ﴾
هذه الغاية، التي خلق الله الجن والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته، المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن معرفة الله تعالى، فإن تمام العبادة، متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) قال الكلبي والضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين ، يدل عليه قراءة ابن عباس : " وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون " ، ثم قال في أخرى : " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس " ، ( الأعراف - 79 ) .وقال بعضهم : وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي ، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال : هو على ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة .وقال علي بن أبي طالب : " إلا ليعبدون " أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي ، يؤيده قوله - عز وجل - : " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا " . ( التوبة - 31 ) .وقال مجاهد : إلا ليعرفوني . وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، دليله : قوله تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ( الزخرف - 87 ) .وقيل : معناه إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة : التذلل والانقياد ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، متذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق عليه .وقيل : " إلا ليعبدون " إلا ليوحدوني ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله - عز وجل - : " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين " . ( العنكبوت - 65 ) .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- الوظيفة التي من أجلها أوجد الله- تعالى- الجن والإنس فقال:وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال منها: أن معناها: إنى ما أوجدت الجن والإنس إلا وهم مهيئون لعبادتي وطاعتي. بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير، فمنهم من أطاع الرسل، وجرى على مقتضى ما تقتضيه الفطرة، فآمن بالرسل، واتبع الحق والرشد، ففاز وسعد، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب.ومنهم من يرى أن معناها: إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا أو كرها، لأن المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه، كما في قوله- تعالى-:وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً.ومنهم من يرى معناها: إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفونى.قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده. فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص..فالآية في المؤمنين منهم.وقال على- رضى الله عنه-: أى: وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي قال- تعالى- وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ.وقيل: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أى: إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها.ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال هو ما أشرنا إليه أولا، من أن معنى الآية الكريمة، أن الله- تعالى- قد خلق الثقلين لعبادته وطاعته، ولكن منهم من أطاعه- سبحانه-، ومنهم من عصاه. لاستحواذ الشيطان عليه.قال الإمام ابن كثير بعد أن ذكر جملة من الأقوال: ومعنى الآية أنه- تعالى- خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب.وفي الحديث القدسي: قال الله- عز وجل- «يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك ... » .وفي بعض الكتب الإلهية. يقول الله- تعالى- «يا ابن آدم، خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبنى تجدني. فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء».
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
ثم قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) أي : إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي ، لا لاحتياجي إليهم .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( إلا ليعبدون ) أي : إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها وهذا اختيار ابن جرير .وقال ابن جريج : إلا ليعرفون . وقال الربيع بن أنس : ( إلا ليعبدون ) أي : إلا للعبادة . وقال السدي : من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع ، ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] هذا منهم عبادة ، وليس ينفعهم مع الشرك . وقال الضحاك : المراد بذلك المؤمنون .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون قيل : إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده ، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص . والمعنى : وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلا ليوحدون . قال القشيري : والآية دخلها التخصيص على القطع ; لأن المجانين والصبيان ما أمروا بالعبادة حتى يقال أراد منهم العبادة ، وقد قال الله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة ، فالآية محمولة على المؤمنين منهم ; وهو كقوله تعالى : قالت الأعراب آمنا وإنما قال فريق منهم . ذكره الضحاك والكلبي والفراء والقتبي . وفي قراءة عبد الله : " وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون " وقال علي رضي الله عنه : أي وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بالعبادة . واعتمد الزجاج على هذا القول ، ويدل عليه قوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا . فإن قيل : كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته ؟ قيل : قد تذللوا لقضائه عليهم ; لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه ، وإنما خالفهم من كفر في العمل بما أمره به ، فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه . وقيل : إلا ليعبدون أي إلا ليقروا لي بالعبادة طوعا أو كرها ; رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . فالكره ما يرى فيهم من أثر الصنعة . مجاهد : إلا ليعرفوني . الثعلبي : وهذا قول حسن ; لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده . ودليل هذا التأويل قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم وما أشبه هذا من الآيات . وعن مجاهد أيضا : إلا لآمرهم وأنهاهم . زيد بن أسلم : هو ما جبلوا عليه من الشقوة والسعادة ; فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة ، وخلق الأشقياء منهم للمعصية . وعن الكلبي أيضا : إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ; يدل عليه قوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين الآية . وقال عكرمة : إلا ليعبدون ويطيعون فأثيب العابد وأعاقب الجاحد . وقيل : المعنى إلا لأستعبدهم . والمعنى متقارب ; تقول : عبد بين العبودة والعبودية ، وأصل العبودية الخضوع والذل . والتعبيد التذليل ; يقال : طريق معبد . قال طرفة بن العبد :وظيفا وظيفا فوق مور معبدوالتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدا . وكذلك الاعتباد . والعبادة الطاعة ، والتعبد التنسك . فمعنى ليعبدون ليذلوا ويخضعوا ويعبدوا .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56)اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) فقال بعضهم: معنى ذلك: وما خلقت السُّعداء من الجنّ والإنس إلا لعبادتي, والأشقياء منهم لمعصيتي.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن ابن جُرَيج, عن زيد بن أسلم ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة.حدثنا ابن بشار, قال: ثنا مؤمل, قال: ثنا سفيان, عن ابن جُرَيج, عن زيد بن أسلم بنحوه.حدثني عبد الأعلى بن واصل, قال: ثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا سفيان, عن ابن جُرَيج, عن زيد بن أسلم, بمثله.حدثنا حُمَيد بن الربيع الخراز, قال: ثنا ابن يمان, قال: ثنا ابن جُرَيج, عن زيد بن أسلم, في قوله ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) قال: جَبَلَهم على الشقاء والسعادة.حدثنا ابن حُمَيد, قال: ثنا مهران, عن سفيان ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) قال: من خلق للعبادة.وقال آخرون: بل معنى ذلك. وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليذعنوا لي بالعبودة.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) : إلا ليقروا بالعبودة طوعا وكَرها.وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرنا عن ابن عباس, وهو: ما خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا, والتذلل لأمرنا.فإن قال قائل: فكيف كفروا وقد خلقهم للتذلل لأمره؟ قيل: إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم, لأن قضاءه جار عليهم, لا يقدرون من الامتناع منه إذا نزل بهم, وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به, فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه.