فلا تعجبك -أيها النبي- أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا بالتعب في تحصيلها وبالمصائب التي تقع فيها، حيث لا يحتسبون ذلك عند الله، وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم بالله ورسوله.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«فلا تعجبْك أموالهم ولا أولادهم» أي لا تستحسن نعمنا عليهم فهي استدراج «إنَّمَا يريد الله ليعذبهم» أي أن يعذبهم «بها في الحياة الدنيا» بما يلقون في جمعها من المشقة وفيها من المصائب «وتزهَق» تخرج «أنفسهم وهم كافرون» فيعذبهم في الآخرة أشد العذاب.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يقول تعالى: فلا تعجبك أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم، فإنه لا غبطة فيها، وأول بركاتها عليهم أن قدموها على مراضى ربهم، وعصوا اللّه لأجلها إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا والمراد بالعذاب هنا، ما ينالهم من المشقة في تحصيلها، والسعي الشديد في ذلك، وهم القلب فيها، وتعب البدن.فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم، لم يكن لها نسبة إليها، فهي لما ألهتهم عن اللّه وذكره صارت وبالا عليهم حتى في الدنيا.ومن وبالها العظيم الخطر، أن قلوبهم تتعلق بها، وإرادتهم لا تتعداها، فتكون منتهى مطلوبهم وغاية مرغوبهم ولا يبقى في قلوبهم للآخرة نصيب، فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة الموجبة للشقاء الدائم والحسرة الملازمة.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه ، يقول : لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لأن العبد إذا كان من الله في استدراج كثر الله ماله وولده ، ( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) فإن قيل : أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا؟قيل : قال مجاهد وقتادة : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .وقيل : التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد .وقال الحسن : يعذبهم بها في الدنيا بأخذ الزكاة منها والنفقة في سبيل الله . وقيل : يعذبهم بالتعب في جمعه ، والوجل في حفظه ، والكره في إنفاقه ، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره . ( وتزهق أنفسهم ) أي : تخرج ، ( وهم كافرون ) أي : يموتون على الكفر .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم نهى الله- تعالى- المؤمنين في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم عن التطلع إلى ما في أيدى هؤلاء المنافقين فقال. فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ...والإعجاب بالشيء معناه: أن تسر به سرورا يجعلك راضيا به ومتمنيا له، والفاء في قوله:فَلا تُعْجِبْكَ للإفصاح.أى إذا كان هذا هو شأن المنافقين، فلا تستحسن. أيها العاقل. ما أعطيناهم إياه من أموال وأولاد، فإنه نوع من الاستدراج.وقوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تعليل للنهى عن الإعجاب بما أعطاهم الله من أموال وأولاد.أى: إنما يريد الله بعطائهم تلك الأموال والأولاد أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا، وقد بسط الإمام الرازي مظاهر تعذيب المنافقين في الدنيا بالأموال والأولاد فقال ما ملخصه:المنافقون يعذبهم الله بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا من وجوه:أحدها: أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر، علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا، وبهذا العلم يفتر حبه للدنيا، وأما المنافق فإنه لما اعتقد أنه لا سعادة له إلا في هذه الخيرات العاجلة، عظمت رغبته فيها، واشتد حبه لها، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه.. فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب الأموال والأولاد.وثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات، ويكلفهم.إرسال أولادهم إلى الجهاد والغزو، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل، وهم كانوا يعتقدون أن محمدا ليس صادقا في كونه رسول، وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة، ولا شك أن هذا كله تعذيب لهم.وثالثا: أنهم كانوا يبغضون محمدا صلى الله عليه وسلم بقلوبهم، ثم إنهم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم في خدمته. ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة عليهم.ورابعا: أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار. وحينئذ يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقتل وسبى الأولاد.. وكل ذلك يوجب ألمهم وقلقهم.وخامسا: أن كثيرا من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبى عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبى.. وكانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق، ويقدحون فيهم.والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به، واستيحاشه منه، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم.. .وقوله: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ بيان لسوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان عذابهم في الدنيا.وزهوق النفس: خروجها من الجسد بصعوبة ومشقة. يقال: زهقت نفسه تزهق إذا خرجت، وزهق الشيء إذا هلك واضمحل، ومنه قوله- تعالى-: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ....والمعنى: لا تعجبك- أيها العاقل- أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، ويريد كذلك أن تخرج أرواحهم من أجسادهم وهم كافرون، فيعذبهم بسبب كفرهم عذابا أليما.فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت المنافقين بسوء المصير في الآخرة ولن يحسد إنسان مصيره كهذا المصير.قال الإمام الرازي: ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه، فإنه- سبحانه- لما بين قبائح أفعالهم، وفضائح أعمالهم، بين ما لهم في الآخرة من العذاب الشديد، وما لهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة ألبتة ثم بين في هذه الآية أن ما يظنونه من منافع الدنيا، فهو في حقيقته سبب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم، وعند ذلك يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدنيا والدين، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا ... » .وبعد أن بينت السورة الكريمة أن هؤلاء المنافقين قد خسروا الدنيا والآخرة، أتبعت ذلك بالحديث عن رذائلهم وقبائحهم التي على رأسها الجبن والكذب فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه : ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) كما قال تعالى : ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) [ طه : 131 ] وقال : ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) [ المؤمنون : 55 ، 56 ] .وقوله : ( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) قال الحسن البصري : بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله .وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، [ في الحياة الدنيا ] إنما يريد الله ليعذبهم بها [ في الآخرة ] .واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القوي الحسن .وقوله : ( وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) أي : ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرونأي لا تستحسن ما أعطيناهم ولا تمل إليه فإنه استدراج إنما يريد الله ليعذبهم بها قال الحسن : المعنى بإخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله . وهذا اختيار الطبري . وقال ابن عباس وقتادة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . وهذا قول أكثر أهل العربية ، ذكره النحاس . وقيل : يعذبهم بالتعب في الجمع . وعلى هذا التأويل وقول الحسن لا تقديم فيه ولا تأخير ، وهو حسن . وقيل : المعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا لأنهم منافقون ، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون .وتزهق أنفسهم وهم كافرون نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين ، سبق بذلك القضاء .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك، يا محمد، أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا, إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال: معنى ذلك التقديمُ، وهو مؤخر.* ذكر من قال ذلك:16804- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)، قال: هذه من تقاديم الكلام, (1) يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا, إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.16805- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.* * *وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا, بما ألزمهم فيها من فرائضه.* ذكر من قال ذلك:16806- حدثت عن المسيّب بن شريك, عن سلمان الأنصري, عن الحسن: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا)، قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله. (2)16807- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا)، بالمصائب فيها, هي لهم عذابٌ، وهي للمؤمنين أجرٌ.* * *قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا, التأويلُ الذي ذكرنا عن الحسن. لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل, فصرْفُ تأويله إلى ما دلَّ عليه ظاهره، أولى من صرفه إلى باطنٍ لا دلالةَ على صحته.وإنما وجَّه من وجَّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر, لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجهًا يوجِّهه إليه, وقال: كيف يعذِّبهم بذلك في الدنيا, وهي لهم فيها سرور؟ وذهبَ عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامُه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه, إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيِّب النفس، ولا راجٍ من الله جزاءً، ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا، على ضجرٍ منه وكُرْهٍ.* * *وأما قوله: (وتزهق أنفسهم وهم كافرون)، فإنه يعني وتخرج أنفسهم, فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودهم نبوّةَ نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم.* * *يقال منه: " زَهَقَت نفس فلان, وزَهِقَت ", فمن قال: " زَهَقت " قال: " تَزْهَق ", ومن قال: " زَهِقت ", قال: " تزهق "، " زهوقًا "، ومنه قيل: " زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَق زُهُوقا " إذا سبقهم فتقدمهم. ويقال: " زهق الباطل "، إذا ذهب ودرس. (3)---------------------الهوامش :(1) هذه أول مرّة أجد استعمال "تقاديم" جمعًا في هذا التفسير. وهي جمع "تقديم" كأمثاله من قولهم "التكاذيب"، "والتكاليف"، و "التحاسين"، و "التقاصيب" ، وما أشبهها .وكان في المخطوطة: "هذه من تقاديم الله، ليعذبهم بها في الآخرة" ، ولكن ناشر المطبوعة نقل هذا النص الثابت في المطبوعة ، من الدر المنثور 3 : 249 ، وكأنه الصواب ، إن شاء الله ، ولذلك تركته على حاله .وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 442 .(2) الأثر : 16806 - " المسيب بن شريك التميمي ، أبو سعيد " ، ترك الناس حديثه ، وقال البخاري : " سكتوا عنه " . مترجم في الكبير 4 1 408 ، وإن أبي حاتم 4 1 294 ، وميزان الاعتدال 3 : 171 ، ولسان الميزان 6 : 38 .و "سلمان الأنصري" ، هكذا في المخطوطة ، وفي المطبوعة " الأقصري " ، ولم أستطع أن أعرف شيئًا عن هذا الاسم.(3) لا أدري ما هذا ، فإن أصحاب اللغة لم يذكروا في مضارع اللغتين إلا "تزهق" بفتح الهاء، أما الأخرى فلا أدري ما تكون، ولا أجد لها عندي وجهًا، فتركتها على حالها لم أضبطها.
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾