واذكروا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك في أن الكلام الذي نسمعه منك هو كلام الله، حتى نرى الله عِيَانًا، فنزلت نار من السماء رأيتموها بأعينكم، فقَتَلَتْكم بسبب ذنوبكم، وجُرْأتكم على الله تعالى.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وإذ قلتم» وقد خرجتم مع موسى لتعتذروا إلى الله من عبادة العجل وسمعتم كلامه «يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة» عيانا «فأخذتكم الصاعقة» الصيحة فمتم «وأنتم تنظرون» ما حل بكم.
﴿ تفسير السعدي ﴾
تفسير الآيات من 50 الى 55 : ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده, أي: ذهابه. وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ عالمون بظلمكم, قد قامت عليكم الحجة, فهو أعظم جرما وأكبر إثما. ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا الله عنكم بسبب ذلك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وذلك أن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً من قومه من خيارهم، فقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، ففعلوا، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه،فقالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال لهم: أفعل، فلما دنا موسى إلى طور سيناء من الجبل وقع عليه عمود الغمام وتغشى الجبل كله،فدخل في الغمام وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام وخروا سجداً، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم الله: أني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري، فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا: له ((لن نؤمن حتى نرى الله جهرة)) معاينة وذلك أن العرب تجعل العلم بالقلب رؤية، فقال جهرة ليعلم أن المراد منه العيان.فأخذتكم الصاعقة أي الموت.وقيل: نار جاءت من السماء فأحرقتهم.وأنتم تنظرون أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت.وقيل: تعلمون، والنظر يكون بمعنى العلم، فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول: "ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟" لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا [155-الأعراف]، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلاً بعد رجل بعدما ماتوا يوماً وليلة، ينظر بعضهم إلى بعض، كيف يحيون فذلك..
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة جليلة ، أسبغها الله عليهم رغم مطالبهم المتعنتة ، وهذه النعمة تتجلى في بعثهم من بعد موتهم ، فقال تعالى :( وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى . . . )جهرة : في الأصل مصدر من قولك جهرت بالقراءة والدعاء واستعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد في الوضوح والانكشاف ، إلا أن الأول في المسموعات والثاني في المبصرات .والصاعقة : - كما قال ابن جرير - " كل أمر هائل رآه الرائي أو عاينه أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل . صوتاً كان ذلك أو ناراً أو زلزلة أو رجفة ، ومما يدل على أن الشخص قد يكون مصعوقاً وهو حي غير ميت ، قوله - تعالى - : ( وَخَرَّ موسى صَعِقاً ) يعني مغشياً عليه ، فقد علم أن مسوى لم يكن حين غشي عليه وصعق ميتاً ، لأن الله أخبر عنه أنه لما أفاق قال : ( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ . . . ) وأصل البعث في اللغة : إثارة الشيء من محله ، وتحريكه بعد سكون ومنه : بعث فلان الناقة : إذا أثارها من مبركها للسير ، ويستعمل بمعنى الإِيقاظ ، كما ورد في قصة أهل الكهف ( فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً . ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ . . . ) أي : أيقظناهم .ويستعمل - أيضاً - بمعنى الإِحياء . وهو المراد في الآية التي معنا ، بدليل قوله تعالى : ( مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) .ومعنى الآيتين الكريمتين : واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن تجاوزتم حدودكم ، وتعنتم في الطلب ، فقلتم لنبيكم موسى بجفاء وغلظة : لن نؤمن لك ، ولن نقر بما جئتنا به ، حتى نرى الله عياناً وعلانية ، فيأمرنا بالإِيمان بك ، وبما جئت به ، فأخذتكم العقوبة التي صعقتكم - بسبب جهلكم وتطاولكم - وأنتم تشاهدونها بعيونكم ، ثم مننا عليكم بلطفنا ورحمتنا فأحييناكم من بعد أن أخذتكم الصاعقة ، لكي تشكروا الله على نعمة التي من جملتها إعادتكم إلى الحياة من بعد موتكم .قال الإِمام ابن جرير : ذكرهم الله - تعالى - بذلك اختلاف آبائهم . وسوء استقامة أسلافهم مع أنبيائهم ، مع كثرة معاينتهم من آيات الله وعبره ما تثلج بأقلها الصدور ، وتطمئن بالتصديق معها النفوس ، وذلك مع تتابع الحجج عليهم وسبوغ النعم من الله لديهم ، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلهاً غير الله ، ومرة يعبدون العجل من دون الله ، ومرة يقولون : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ) . وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال : ( فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ومرة يقال لهم : ( وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ) فيقولون حنطة في شعيرة ، ويدخلون الباب من قبل أستاهم ، مع غير ذلك من أفعالهم القبيحة التي يكثر إحصاؤها ، فأعلم الله - تعالى - الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوته كآبائهم وأسلافهم ، الذين فصل عليهم قصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى ، وتمردهم على نبيه موسى - عليه السلام - تارة بعد أخرى مع ابتلاء الله لهم ، وسبوغ آلائه عليهم .والقائلون لموسى - عليه السلام - : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ) يرى جمهور المفسرين أنهم هم السبعون الذين اختارهم موسى للذهاب معه إلى ميقات ربه ، وقد وردت آثار تؤيد هذا الرأي .من ذلك ما أخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله تعالى : ( فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة ) أنه قال : هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه . وقالوا : اطلب لنا ربك لنسمع كلامه . قال : سمعوا كلاماً ، فقالوا : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ) قال : فسمعوا صوتاً فصعقوا يقول : ماتوا ، فذلك قوله : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) فبعثوا من بعد موتهم ، لأن موتهم ذلك عقوبة لهم ، فبعثوا لبقية آجالهم .وقال ابن كثير : الذين قالوا لموسى : ( أَرِنَا الله جَهْرَةً ) المراد بهم السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه .وقيل : إن الذين طلبوا من موسى رؤية الله جهرة هم عامة بني إسرائيل بدون تحديد لهؤلاء السبعين ، فقد روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير هذه الآية . " قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة ، فوجدهم يعبدون العجل . فأمرهم بقتل أنفسهم ، ففعلوا ، فتاب الله عليهم ، فقال لهم موسى : ( إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ، ونهيكم الذي نهاكم عنه ، فقالوا : ومن يأخذ بقلوك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة ، حتى يطلع الله علينا فيقول : هذا كتابي فخذوه ، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله تعالى : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ) ؛ قال : فجاءت غضبة من الله - تعالى - ، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة . فصعقتهم فماتوا جميعاً . قال : ثم أحياهم الله من بعد موتهم ، وقرأ قوله تعالى : ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . فقال لهم موسى : خذوا كتاب الله ، فقالوا لا ، فقال : أي شيء أصابكم؟ فقالوا : أصابنا أننا متنا ثم أحيينا . قال : خذوا كتاب الله ، قالوا لا ، فبعث الله ملائكة فنتفت الجبل فوقهم ) .قال الإِمام ابن كثير : ( وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعدما أحيوا ثم قال : وقد حكى الماوردي في ذلك قولين :أحدهما : أنهم سقط التكليف لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق .والثاني : أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف .وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم ، لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أموراً عظاماً من خوارق العادات وهم مع ذلك مكلفون؛ وهذا واضح ، والله أعلم ) .وقال ابن جرير : " ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى تقوم به حجة ، فنسلم لهم ، وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه ، فإذا كان لا خبر بذلك تقوم به حجة فالصواب من القول فيه أن يقال : إن الله - جل ثناؤه - قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له ( ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ) كما أخبر عنهم أنهم قالوه . . . "وفي ندائهم لنبيهم باسمه " يا موسى " سوء أدب منهم معه ، لأنه كان من الواجب عليهم ، أن يقولوا له : يا رسول الله أو يا نبي الله ، من الصفات التي تشعر بصفات التعظيم والتوقير ، وقد تكررت مناداتهم باسمه مجرداً في كثير من المواطن .ومن أدب الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقولون له : يا رسول الله ، استجابة لأمر الله - تعالى - في قوله : ( لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) وقولهم : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ) دليل على تمردهم وعصيانهم ، وقلة اكتراثهم بما أوتوا من نعم ، وما شاهدوا من معجزات ، إذ أنهم طلبوا منه أن يروا الله عياناً ، فإن لم يروه داخلهم الشك في صدق نبيهم .وعبر عنهم القرآن الكريم بأنهم يريدون الرؤية ( جهرة ) لإزالة احتمال أنهم يكتفون بالرؤية المنامية ، أو العلم القلبي ، فهم لا يعتقدون إلا بالرؤية الحسية ، لغلظ قلوبهم ، وجفاء طباعهم .وقوله تعالى : ( فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة ) إشارة إلى أن العقوبة قد فاجأتهم بعد وقت قصير من مطالبهم المتعنتة ، لأن الفاء تفيد التعقيب .وجملة ( وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ) تفيد أن العقوبة نزلت عليهم وهم يشاهدونهنا وفي مشاهدتها رعب وخوف أخذ بمجامع قلوبهم ، قبل أن يأخذ العذاب أجسادهم ، وإن أصابتهم بهذه العقوبة كان في حالة إساءتهم وتمردهم وطمعهم في أن ينالوا ما ليس من حقهم .والآية الكريمة تفيد أن بني إسرائيل طلبوا من نبيهم رؤية الله جهرة في الدنيا ، وأنهم علقوا إيمانهم عليها ، ولم يأبهوا للآيات الدالة على صدق . موسى - عليه السلام - فكان ذلك محض تعنت وعناد منهم ، فأخذتهم الصاعقة عقوبة لهم على ذلك ، وليس على مجرد سؤالهم رؤية الله - تعالى - ومن هنا يتبين أن الآية لا تدل على استحالة الرؤية كما يقول المعتزلة .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانا ، مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم ، كما قال ابن جريج ، قال ابن عباس في هذه الآية : ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) قال : علانية .وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق ، عن أبي الحويرث ، عن ابن عباس ، أنه قال في قول الله تعالى : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) أي علانية ، أي حتى نرى الله .وقال قتادة ، والربيع بن أنس : ( حتى نرى الله جهرة ) أي عيانا .وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس : هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه . قال : فسمعوا كلاما ، فقالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) قال : فسمعوا صوتا فصعقوا ، يقول : ماتوا .وقال مروان بن الحكم ، فيما خطب به على منبر مكة : الصاعقة : صيحة من السماء .وقال السدي في قوله : ( فأخذتكم الصاعقة ) الصاعقة : نار .وقال عروة بن رويم في قوله : ( وأنتم تنظرون ) قال : فصعق بعضهم وبعض ينظرون ، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء .وقال السدي : ( فأخذتكم الصاعقة ) فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ، ويقول : رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ( لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) [ الأعراف : 155 ] . فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل ، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل ، ينظر بعضهم إلى بعض : كيف يحيون ؟ قال : فذلك قوله تعالى : ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون )
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرونفيه خمس مسائل : الأولى : " وإذ قلتم " معطوف . " يا موسى " نداء مفرد . لن نؤمن لك أي نصدقك حتى نرى الله جهرة قيل هم السبعون الذين اختارهم موسى ، وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك لن نؤمن لك . والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم فأرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى ثم بعثناكم من بعد موتكم وستأتي قصة السبعين في الأعراف إن شاء الله تعالى قال ابن فورك يحتمل أن تكون معاقبتهم لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه بقولهم لموسى أرنا الله جهرة وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام .وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والآخرة وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية محالا ; وقد سألها موسى عليه السلام وسيأتي الكلام في الرؤية في " الأنعام " و " الأعراف " إن شاء الله تعالىالثانية : قوله تعالى : : جهرة مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها والمجاهرة بالمعاصي المظاهرة بها ورأيت الأمير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشيء وقرأ ابن عباس ( جهرة ) بفتح الهاء ، وهما لغتان مثل زهرة وزهرة وفي الجهر وجهان : أحدهما : أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير وإذ قلتم جهرة يا موسى . الثاني : أنه صفة لما سألوه من رؤية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام على نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنامالثالثة قوله تعالى : فأخذتكم الصاعقة قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة ، وقرأ عمر وعثمان وعلي ( الصعقة ) وهي قراءة ابن محيصن في جميع القرآن .وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال ويقال كيف يموتون وهم ينظرون ؟ فالجواب أن العرب تقول دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا ، وقيل المعنى تنظرون أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةًقال أبو جعفر: وتأويل ذلك: واذكروا أيضا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله جهرة - عِيانا برفع الساتر بيننا وبينه, وكشف الغطاء دوننا ودونه، حتى ننظر إليه بأبصارنا , كما تجهر الرَّكيَّة , وذلك إذا كان ماؤها قد غطاه الطين , فنُقِّي ما قد غطاه حتى ظهر الماء وصفا. يقال منه: (147) " قد جَهَرْتُ الركية أجهرها جهرا وجهرة ". (148) ولذلك قيل: " قد جاهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا "، (149) " إذا أظهره لرأي العين وأعلنه، كما قال الفرزدق بن غالب:من اللائي يظل الألف منهمنيخًا من مخافته جهارا (150)947 - وكما حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (حتى نرى الله جهرة)، قال: علانية.948 - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: (حتى نرى الله جهرة) يقول: عيانا.949 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (حتى نرى الله جهرة)، حتى يطلع إلينا.950 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: (حتى نرى الله جهرة)، أي عيانا.فذكرهم بذلك جل ذكره اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم , مع كثرة معاينتهم من آيات الله جل وعز وعبره ما تثلج بأقلها الصدور , (151) وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم , وسبوغ النعم من الله لديهم، (152) وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله. ومرة يعبدون العجل من دون الله. ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة . وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا &; 2-82 &; قاعدون. ومرة يقال لهم: قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم. فيقولون: حنطة في شعيرة! ويدخلون الباب من قبل أستاههم , مع غير ذلك من أفعالهم التي آذوا بها نبيهم عليه السلام، التي يكثر إحصاؤها.فأعلم ربنا تبارك وتعالى ذكره الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لن يعدوا أن يكونوا -في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه و سلم, وجحودهم نبوته , وتركهم الإقرار به وبما جاء به , مع علمهم به، ومعرفتهم بحقيقة أمره- كأسلافهم وآبائهم الذين فصّل عليهم ققَصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى, وتوثبهم على نبيهم موسى صلوات الله وسلامه عليه تارة بعد أخرى , مع عظيم بلاء الله جل وعز عندهم، وسبوغ آلائه عليهم. (153) .* * *القول في تأويل قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)اختلف أهل التأويل في صفة الصاعقة التي أخذتهم . فقال بعضهم بما: -951 - حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله: (فأخذتكم الصاعقة)، قال: ماتوا.952 - وحدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع: (فأخذتكم الصاعقة) قال: سمعوا صوتا فصَعِقوا ، يقول: فماتوا.* * *وقال آخرون بما: -953 - حدثني موسى بن هارون الهمداني قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، &; 2-83 &; حدثنا أسباط , عن السدي: (فأخذتكم الصاعقة)، والصاعقة: نار.* * *وقال آخرون بما: -954 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: أخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعا.* * *وأصل " الصاعقة " كل أمر هائل رآه [المرء] أو عاينه أو أصابه - (154) حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب, وإلى ذهاب عقل وغمور فهم , (155) أو فقد بعض آلات الجسم - صوتا كان ذلك أو نارا , أو زلزلة , أو رجفا . ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت , قول الله عز وجل: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف: 143]، يعني مغشيا عليه، ومنه قول جرير بن عطية:وهل كان الفرزدق غير قردأصابته الصواعق فاستدارا (156)فقد علم أن موسى لم يكن -حين غشي عليه وصعق ميتا، لأن الله جل وعز أخبر عنه أنه لما أفاق قال: تُبْتُ إِلَيْكَ [ الأعراف: 143]- ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا . ولكن معنى ذلك ما وصفنا .* * *ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون) ، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم , يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها.-------------الهوامش :(147) هذا نص كلام الأخفش (اللسان جهر) . وفي المطبوعة"فنفى ما قد غطاه" ، ولا بأس بها ، ولكني أثبت ما في اللسان .(148) قوله"وجهرة" ، مصدر لم أجده في اللسان ولا في غيره .(149) في المطبوعة : "جهر فلان بهذا الأمر مجاهرة وجهارا" ، وليس حسنا أن يقال كذلك . فإن"مجاهرة" لا تكون مصدر"جهر" ألبتة ، وإن جاز أن يكون"جهار" مصدرا له كما في اللسان : "جهر بكلامه يجهر جهرا وجهارا" . فمن أجل ذلك آثرت أن أضع مكان"جهر""جاهر" ، حتى يستقيم على الجادة .(150) ديوانه : 443 ، والنقائض : 255 ، يهجو جريرا ، وقبل البيت :عوى , فأثار أغلب ضيغميافويل ابن المراغة ! ما استثارا?قوله"عوى" يعني جريرا. وقوله"من اللائي"، أصله: من اللائين. و"اللاؤون" جمع"الذي" من غير لفظه، بمعنى"الذين". وفيه لغات: اللاؤون، في الرفع، واللائين، في الخفض والنصب. واللاؤو، بلانون، واللائي، بإثبات الياء في كل حال. يستوى فيه الرجال والنساء، ومنه قول عباد بن طهفة، وهو أبو الربيس، شاعر أموي:من النفر اللائي الذين إذا همويهاب اللئام حلقة الباب قعقعواوأجاز أبو الربيس أن يجمع بين"اللائي" و"الذين"، لاختلاف اللفظين، أو على إلغاء أحدهما. قول الفرزدق:"من اللائي"، يعني: من الذين. ثم قطع القول وحذف، لدلالة الكلام على ما أراد، كأنه قال: هو من الذين عرفت يا جرير. ثم استأنف فقال: يظل الألف منه..، والضمير في"منه" عائد إلى قوله:"أغلب ضيغميا"، هو الأسد، ويعني نفسه. والألف: يعني ألف رجل. وقوله:"منيخا": أي قد أناخ"الألف" ركابهم من مخافته، وقد قطع عليهم الطريق.هذا، ورواية النقائض والديوان:"نهارا" مكان"جهارا" جاء تفسيرها في النقائض:"قال: نهارا، ولم يقل: ليلا، لأن الأسد أكثر شجاعته وقوته بالليل.فيقول: هذا الأسد يظل الألف منه منيخا بالنهار، فكيف بالليل!". رواية الطبري:"جهارا" قريبة المعنى من رواية من روى"نهارا". وهم يقولون: لقيته جهارا نهارا. لأن النهار يكشف كل شيء ويعلنه ويجهره. أي أناخوا يرونه وهم يرونه رأى العين، وذلك في النهار.(151) ثلجت نفسه بالشيء (بكسر اللام) تثلج وتثلج (بفتح اللام وضمها) ثلوجا : اشتفت واطمأنت وسكنت إليه ، ووثقت به .(152) مضى في ص : 58 التعليق على مثل هذه الكلمة ، وكانت في المخطوطة : "شيوع آلائه لديهم" . وسبوغ النعمة : كمالها وتمامها واتساعها . ولا أزال أستحسن أن تكون هنا"شيوع" ، لقوله"لديهم" ، فأما إن قال"وسبوغ النعم عليهم" ، كما سيأتي في آخر هذه الفقرة ، فهي"سبوغ"ولا شك .(153) انظر التعليق السالف : 77 تعليق : 2(154) الزيادة بين القوسين من عندي . ليستقيم بها الكلام .(155) قوله"غمور فهم" لم أجد هذا المصدر في كتب اللغة. وكأنه مصدر غمر عليه (بالبناء للمجهول): أغمى عليه. وفي الحديث أنه أول ما اشتكي بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة، اشتد مرضه حتى غمر عليه - أي: أغمى عليه، حتى كأنه غطى على عقله وستر، من قولهم: غمرت الشيء: إذا سترته، وغشي عليه وأغمي عليه من معنى الستر أيضًا (اللسان، الفائق).(156) ديوانه : 281 ، والنقائض : 251 وبعده في هجاء الفرزدق ، وهو من أشده :وكنت إذا حللت بدار قومرحلت بِخَزْيَةٍ وتركت عاراوما أشد ما قال! وقال في النقائض في شرح البيت : "ولغته - يعني جريرا - الصواقع . فاستدار : أي استدار إنسانا بعد أن كان قردا" . وكأنه أخطأ المعنى ، فإنه أراد أنه مسخ قردا على هيئته التي كان عليها قبل أن يكون إنسانا . فقوله : "استدار" : عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" أي عاد كما بدأ . فهو يقول : كان الفرزدق في أصل نشأته قردا ، ثم تحول إنسانا ، فلما أصابته صواعق شعري عاد كما كان في أصل نشأته قردا صريحا .
﴿ وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ﴾