لقد ابتغى المنافقون فتنة المؤمنين عن دينهم وصدهم عن سبيل الله من قبل غزوة (تبوك)، وكشف أمرهم، وصرَّفوا لك -أيها النبي- الأمور في إبطال ما جئت به، كما فعلوا يوم (أحد) ويوم (الخندق)، ودبَّروا لك الكيد حتى جاء النصر من عند الله، وأعز جنده ونصر دينه، وهم كارهون له.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«لقد ابتغوا» لك «الفتنة من قبل» أول ما قدمت المدينة «وقلَّبوا لك الأمور» أي أحالوا الفكر في كيدك وإبطال دينك «حتى جاء الحق» النصر «وظهر» عَزَّ «أمر الله» دينه «وهم كارهون» له فدخلوا فيه ظاهرا.
﴿ تفسير السعدي ﴾
ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشر فقال: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي: حين هاجرتم إلى المدينة، بذلوا الجهد، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي: أداروا الأفكار، وأعملوا الحيل في إبطال دعوتكم وخذلان دينكم، ولم يقصروا في ذلك، حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ فبطل كيدهم واضمحل باطلهم، فحقيق بمثل هؤلاء أن يحذر اللّه عباده المؤمنين منهم، وأن لا يبالي المؤمنين، بتخلفهم عنهم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( لقد ابتغوا الفتنة من قبل ) أي : طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر ، وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم ، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه . ( وقلبوا لك الأمور ) وأجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي ، بالتخذيل عنك وتشتيت أمرك ، ( حتى جاء الحق ) النصر والظفر ، ( وظهر أمر الله ) دين الله ، ( وهم كارهون ) .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم ذكر الله تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم بطرف من الماضي المظلم لهؤلاء المنافقين فقال:لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ.أى: لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الشرور والمفاسد في صفوف المسلمين، من قبل ما حدث منهم في غزوة تبوك.ومن مظاهر ذلك أنهم ساءهم انتصاركم في غزوة بدر، وامتنعوا عن مناصرتكم في غزوة أحد، متبعين في ذلك زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول، ثم واصلوا حربهم لكم سرا وجهرا حتى كانت غزوة تبوك التي فضح الله فيها أحوالهم.فالمراد بقوله: مِنْ قَبْلُ أى: من قبل هذه الغزوة التي كانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.أى أن ما صدر عن هؤلاء المنافقين من مسالك خبيثة خلال غزوة تبوك ليس هو الأول من نوعه، بل هم لهم في هذا المضمار تاريخ مظلم بدأ منذ أوائل عهد الدعوة الإسلامية بالمدينة.وقوله: وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ بيان لتفننهم في وجوه الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وتقليب الأمر: تصريفه، وترديده، وإجالة الرأى فيه، والنظر إليه من كل نواحيه: لمعرفة أى ناحية منه توصل إلى الهدف المنشود.والمراد أن هؤلاء المنافقين قد ابتغوا الأذى للدعوة الإسلامية من قبل هذه الغزوة، ودبروا لصاحبها صلى الله عليه وسلم المكايد، واستعملوا قصارى جهدهم، ومنتهى اجتهادهم، وخلاصة مكرهم، من أجل صد الناس عن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.وقوله: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ.. غاية لمحذوف، والتقدير: أن هؤلاء المنافقين استمروا على حربهم للدعوة الإسلامية «حتى جاء الحق» أى: النصر الذي وعد الله عباده به «وظهر أمر الله» أى: دينه وشرعه «وهم» أى المنافقون وأشباههم «كارهون» لذلك لأنهم يكرهون انتصار دين الإسلام، ويحبون هزيمته وخذلانه، ولكن الله- تعالى- خيب آمالهم، وأحبط مكرهم.قال الإمام ابن كثير: عند ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبى، وأصحابه: هذا أمر قد توجه، فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم وساءهم، ولهذا قال- تعالى-: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ.ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة، ومن أقوالهم الخبيثة.. فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين : ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور ) أي : لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة ، وذلك أول مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه . فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ؛ ولهذا قال تعالى : ( حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون )
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهونقوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي لقد طلبوا الإفساد والخبال من قبل أن يظهر أمرهم ، وينزل الوحي بما أسروه وبما سيفعلونه . وقال ابن جريج : أراد اثني عشر رجلا من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .وقلبوا لك الأمور أي صرفوها وأجالوا الرأي في إبطال ما جئت بهحتى جاء الحق وظهر أمر الله أي دينه وهم كارهون
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك، يا محمد, التمسوا صدَّهم عن دينهم (1) وحرصوا على ردّهم إلى الكفرِ بالتخذيل عنه، (2) كفعل عبد الله بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أحدٍ، حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه. وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتنة من قبل. ويعني بقوله: (من قبل)، من قبل هذا =(وقلبوا لك الأمور)، يقول: وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به الله الرأيَ بالتخذيل عنك, (3) وإنكار ما تأتيهم به, وردّه عليك =(حتى جاء الحق)، يقول: حتى جاء نصر الله =(وظهر أمر الله)، يقول: وظهر دين الله الذي أمرَ به وافترضه على خلقه، وهو الإسلام (4) =(وهم كارهون)، يقول: والمنافقون بظهور أمر الله ونصره إياك كارهون. (5) وكذلك الآن، يظهرك الله ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به، وهم كارهون.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:16782- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (وقلبوا لك الأمور)، أي: ليخذِّلوا عنك أصحابك, ويردُّوا عليك أمرك =(حتى جاء الحق وظهر أمر الله). (6)* * *وذكر أن هذه الآية نزلت في نفرٍ مسمَّين بأعيانهم.16783- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن عمرو, عن الحسن قوله: (وقلبوا لك الأمور)، قال: منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول, وعبد الله بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف, ورفاعة بن رافع, وزيد بن التابوت القينقاعي. (7)* * *وكان تخذيل عبد الله بن أبيٍّ أصحابَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة, كالذي:16784- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن الزهري, ويزيد بن رومان, وعبد الله بن أبي بكر, وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم, كلُّ قد حدَّث في غزوة تبوك ما بلغَه عنها, وبعض القوم يحدِّث ما لم يحدِّث بعضٌ, وكلٌّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم, وذلك في زمان عُسْرةٍ من الناس، (8) وشدة من الحرّ، وجَدْبٍ من البلاد, وحين طاب الثمار، وأحِبَّتِ الظلال, (9) فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم, ويكرهون الشخوص عنها، على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوةٍ إلا كَنَى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يَصْمِدُ له, (10) إلا ما كان من غزوة تبوك, فإنه بيَّنها للناس، لبعد الشُّقَّة، وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صَمَد له، ليتأهَّب الناس لذلك أُهْبَتَه. فأمر الناس بالجهاد, وأخبرهم أنه يريد الروم. فتجهز الناسُ على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه، لما فيه, مع ما عظَّموا من ذكر الروم وغزوهم. (11)= ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ في سفره, فأمر الناس بالجهازِ والانكماش, (12) وحضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله. (13)= فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع, (14) وضرب عبد الله بن أبي ابن سلول عسكره على حِدَةٍ أسفلَ منه بحذاء " ذباب " (15) = جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع = وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين. فلما سار رَسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلَّف من المنافقين وأهل الريب. وكان عبد الله بن أبي، أخا بني عوف بن الخزرج, وعبد الله بن نبتل، أخا بني عمرو بن عوف, ورفاعة بن زيد بن التابوت، (16) أخا بني قينقاع, وكانوا من عظماء المنافقين, وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله.= قال: وفيهم، فيما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن البصري، أنزل الله: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل)، الآية. (17)----------------------الهوامش :(1) انظر تفسير "ابتغى" فيما سلف قريبا ص: 279 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك.(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص : ، 279 تعليق : 2 ، والمراجع هناك.(3) انظر تفسير "التقليب" فيما سلف 12 : 44 ، 45 ، ومادة (قلب) في فهارس اللغة.(4) انظر تفسير "الظهور" فيما سلف ص : 214 ، 215.(5) انظر تفسير " الكره " فيما سلف ص : 276 ، تعليق : 3 ، والمراجع هناك .(6) الأثر : 16782 - سيرة ابن هشام 4 : 194، وهو تابع الأثر السالف رقم : 16781.(7) الأثر : 16782 - لم أجده في سيرة ابن هشام . ولكنه في تاريخ الطبري 3 : 143 ، بمثله .(8) في السيرة: "في زمان من عسرة الناس".(9) "وأحبت الظلال" ليس في سيرة ابن هشام، وهو ثابت في رواية أبي جعفر في التاريخ 3 : 142 . وكذلك في المطبوعة: "والناس يحبون" وأثبت ما في المخطوطة ، فهو مطلب السياق.(10) "صمد للأمر يصمد"، قصده قصدًا.(11) هذه الجملة الأخيرة من أول قوله: "فتجهز الناس"، لم أجدها في هذا الموضع من سيرة ابن هشام 4 : 159 ، وسأذكر موضع ما يليه في التخريج ، فإنه قد أسقط ما بعد ذلك ، حتى بلغ ما بعده .(12) "الانكماش" الإسراع والجد في العمل والطلب.(13) "الحملان" (بضم فسكون) مصدر مثل "الحمل"، يريد: حمل من لا دابة له على دابة يركبها في وجهه هذا.وهذه الجملة من أول قوله: "ثم إن رسول الله"، إلى هذا الموضع ، في سيرة ابن هشام 4 : 161 ، والذي يليه من موضع آخر سأبينه .(14) وهذه الجملة مفردة في سيرة ابن هشام 4 : 162، بعدها كلام حذفه أبو جعفر، ووصله بما بعده.(15) في المطبوعة والمخطوطة: "على ذي حدة" ، وكان في المخطوطة كتب قبل "ذي" "دين" ثم ضرب عليها. ولم أجدهم قالوا: "على ذي حدة"، يؤيد صواب ذلك أن ابن هشام قال: "على حدة"، وذكر أبو جعفر هذا الخبر في تاريخه 3 : 143، فيه أيضًا "على حدة" ، فمن أجل ذلك أغفلت ما كان في المطبوعة والمخطوطة = وكان في المطبوعة ، وفي سيرة ابن هشام " نحو ذباب " ، وفي المخطوطة : " نحوا " ، والألف مطموسة قصيرة ، والذي في التاريخ ما أثبته " بحذاء " ، وهو الصواب الذي لا شك فيه. وبيان موضع الجبل ، ليس مذكورًا في السيرة ، وهو مذكور في التاريخ.(16) في المطبوعة: "رفاعة بن يزيد"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، والتاريخ.(17) الأثر : 16784 - هذا خبر مفرق، ذكرت مواضعه فيما سلف ، وهو في سيرة ابن هشام 4 : 159 ثم 4 : 161 ثم 4 : 162 ، وهو بتمامه في تاريخ الطبري 3 : 142 ، 143 . والجزء الأخير من هذا الخبر ، مضى برقم : 16873.
﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ﴾