ويوم يَحشر الله هؤلاء المشركين يوم البعث والحساب، كأنهم قبل ذلك لم يمكثوا في الحياة الدنيا إلا قدر ساعة من النهار، يعرف بعضهم بعضًا كحالهم في الدنيا، ثم انقطعت تلك المعرفة وانقضت تلك الساعة. قد خسر الذين كفروا وكذَّبوا بلقاء الله وثوابه وعقابه، وما كانوا موفَّقين لإصابة الرشد فيما فعلوا.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«ويوم يحشرهم كأن» أي كأنهم «لم يلبثوا» في الدنيا أو القبور «إلا ساعة من النهار» لهول ما رأوا، وجملة التشبيه حال من الضمير «يتعارفون بينهم» يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدة الأهوال، والجملة حال مقدرة أو متعلق الظرف «قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله» بالبعث «وما كانوا مهتدين».
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى، عن سرعة انقضاء الدنيا، وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه، كأنهم ما لبثوا إلا ساعة من نهار، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس، وهم يتعارفون بينهم، كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون، ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم، حيث فاتهم النعيم، واستحقوا دخول النار.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( ويوم يحشرهم ) قرأ حفص بالياء ، والآخرون بالنون ، ( كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ) قال الضحاك : كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار . وقال ابن عباس : كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار ، ( يتعارفون بينهم ) يعرف بعضهم بعضا حين بعثوا من القبور كمعرفتهم في الدنيا ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة . وفي بعض الآثار : أن الإنسان يعرف يوم القيامة من بجنبه ولا يكلمه هيبة وخشية .( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) والمراد من الخسران : خسران النفس ، ولا شيء أعظم منه .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- سبحانه-: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ بيان لأحوالهم السيئة عند جمعهم لحساب يوم القيامة.إذ الحشر- كما يقول الراغب- إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها» .والمراد به هنا: إخراج الناس من قبورهم وجمعهم في الموقف لحسابهم على أعمالهم الدنيوية.والمقصود بالساعة هنا: المدة القليلة من الزمان، فقد جرت العادة أن يضرب بها المثل في الوقت القصير.والمعنى: واذكر أيها الرسول الكريم، وذكر هؤلاء المشركين الذين عموا وصموا عن الحق، يوم يجمعهم الله- في الآخرة للحساب والعقاب، فيشتد كربهم، وينسون تلك الملذات والشهوات.. التي استمتعوا بها في الدنيا، حتى لكأنهم لم يلبثوا فيها وفي قبورهم، إلا ساعة من النهار أى: إلا مدة قصيرة من النهار، يتعارفون بينهم، أى: لا تتسع تلك المدة إلا للتعارف فيما بينهم.وقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا جملة حالية من ضمير الجمع في يحشرهم.وخصت الساعة بكونها من النهار، لأنها أعرف لهم من ساعات الليل.والمقصود بالتشبيه: بيان أن هذه السنوات الطويلة التي قضاها هؤلاء المشركون في الدنيا يتمتعون بلهوها ولعبها، ويستبعدون معها أن هناك بعثا وحسابا.. قد زالت عن ذاكرتهم في يوم القيامة، حتى لكأنهم لم يمكثوا فيها سوى وقت قصير لا يتسع لأكثر من التعارف القليل مع الأقارب والجيران والأصدقاء، حتى لكأن ذلك النعيم الذي تقلبوا فيه دهرا طويلا لم يروه من قبل ...وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في سورة الأحقاف: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ وقوله- سبحانه، في سورة الروم وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ .فإن قيل: إن هناك بعض الآيات ذكرت أنهم عند ما يسألون يحسبون بأنهم لبثوا في الدنيا يوما أو بعض يوم، أو عشية أو ضحاها كما في قوله- تعالى-: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ . وكما في قوله- تعالى- كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها فكيف نجمع بين هذه الآيات التي اختلفت إجابتهم فيها؟.فالجواب: أن أهل الموقف يختلفون في تقدير الزمن الذي لبثوه في الدنيا على حسب اختلاف أحوالهم، وعلى حسب أهوال كل موقف، فإن في يوم القيامة مواقف متعددة بعضها أشد من بعض.وقوله يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ جملة حالية أيضا من ضمير الجمع في يحشرهم.قال القرطبي: «وهذا التعارف توبيخ وافتضاح، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتنى وأغويتنى وحملتني على الكفر، وليس تعارف شفقة ورحمة وعطف ... والصحيح أنه لا ينقطع هذا التعارف التوبيخي عند مشاهدة أهوال القيامة، لقوله- تعالى- وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ ...فأما قوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً وأشباهه فمعناه: لا يسأله سؤال رحمة وشفقة..» .وقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ جملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم الله عليهم في آخرتهم بعد أن ضيعوا دنياهم.والمراد بلقاء الله: مطلق الحساب والجزاء الكائن في يوم القيامة.أى: أن هؤلاء الأشقياء الذين أعرضوا عن الحق وأنكروا الحشر، قد خسروا سعادتهم الأبدية، وحق عليهم العذاب المهين، بسبب كفرهم وطغيانهم، وعدم اهتدائهم إلى طريق النجاة.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة : كأنهم يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا ( إلا ساعة من النهار ) كما قال تعالى : ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) [ النازعات : 46 ] ، وقال تعالى : ( يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ) [ طه : 102 - 104 ] ، وقال تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ) [ الروم : 55 ، 56 ] .وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون ) [ المؤمنون : 112 ، 114 ] .وقوله : ( يتعارفون بينهم ) أي : يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض ، كما كانوا في الدنيا ، ولكن كل مشغول بنفسه ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) [ المؤمنون : 101 ] ، وقال تعالى : ( ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا ) [ المعارج : 10 ، 15 ] .وقوله : ( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) كقوله تعالى : ( ويل يومئذ للمكذبين ) [ المرسلات : 15 ] . لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين . فهذه هي الخسارة العظيمة ، ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدينقوله تعالى ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا بمعنى " كأنهم " خففت ، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم . إلا ساعة من النهار أي قدر ساعة : يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث ; دليله قولهم : لبثنا يوما أو بعض يوم . وقيل : إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر . ابن عباس : رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة .يتعارفون بينهم في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في يحشرهم . ويجوز أن يكون منقطعا ، فكأنه قال فهم يتعارفون . قال الكلبي : يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ; وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح ; يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر ; وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف . ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال : ولا يسأل حميم حميما . وقيل : يبقى تعارف التوبيخ ; وهو الصحيح لقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون إلى قوله وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا وقوله : كلما دخلت أمة لعنت أختها الآية ، وقوله : ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا الآية . فأما قوله : ولا يسأل حميم حميما وقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة ، والله أعلم . وقيل : القيامة مواطن . وقيل : معنى يتعارفون يتساءلون ، أي يتساءلون كم لبثتم ; كما قال : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وهذا حسن . وقال الضحاك : ذلك تعارف تعاطف المؤمنين ; والكافرون لا تعاطف عليهم ; كما قال : فلا أنساب بينهم . والأول أظهر ، والله أعلم .قوله تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين أي بالعرض على الله . ثم قيل : يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور ، أي خسروا ثواب الجنة . وقيل : خسروا في حال لقاء الله ; لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة . قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم ، يقولون هذا . وما كانوا مهتدين يريد في علم الله .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، (1) كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، (2) ثم انقطعت المعرفة ، وانقضت تلك الساعة ، يقول الله: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) ، قد غُبن الذين جحدوا ثوابَ الله وعقابه وحظوظَهم من الخير وهلكوا (3) ، (وما كانوا مهتدين) يقول: وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله ، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله.-----------------------الهوامش :(1) انظر تفسير " الحشر" فيما سلف ص : 77 ، تعليق : 5 ، والمراجع هناك .(2) انظر تفسير " اللبث " فيما سلف ص : 41 .(3) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف 14 : 344 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .
﴿ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ﴾