فلما خرج طالوت بجنوده لقتال العمالقة قال لهم: إن الله ممتحنكم على الصبر بنهر أمامكم تعبرونه؛ ليتميَّز المؤمن من المنافق، فمن شرب منكم من ماء النهر فليس مني، ولا يصلح للجهاد معي، ومن لم يذق الماء فإنه مني؛ لأنه مطيع لأمري وصالح للجهاد، إلا مَن ترخَّص واغترف غُرْفة واحدة بيده فلا لوم عليه. فلما وصلوا إلى النهر انكبوا على الماء، وأفرطوا في الشرب منه، إلا عددًا قليلا منهم صبروا على العطش والحر، واكتفوا بغُرْفة اليد، وحينئذ تخلف العصاة. ولما عبر طالوت النهر هو والقلة المؤمنة معه -وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لملاقاة العدو، ورأوا كثرة عدوهم وعدَّتهم، قالوا: لا قدرة لنا اليوم بجالوت وجنوده الأشداء، فأجاب الذين يوقنون بلقاء الله، يُذَكِّرون إخوانهم بالله وقدرته قائلين: كم من جماعة قليلة مؤمنة صابرة، غلبت بإذن الله وأمره جماعة كثيرة كافرة باغية. والله مع الصابرين بتوفيقه ونصره، وحسن مثوبته.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«فلمَّا فصل» خرج «طالوت بالجنود» من بيت المقدس وكان الحر شديدا وطلبوا منه الماء «قال إن الله مبتليكم» مختبركم «بنهر» ليظهر المطيع منكم والعاصي وهو بين الأردن وفلسطين «فمن شرب منه» أي من مائه «فليس مني» أي من أتباعي «ومن لم يطعمه» يذقه «فإنه مني إلا من اغترف غرفة» بالفتح والضم «بيده» فاكتفى بها ولم يزد عليها فإنه مني «فشربوا منه» لما وافوه بكثرة «إلا قليلا منهم» فاقتصروا على الغرفة روي أنها كفتهم لشربهم ودوابهم وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا «فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه» وهم الذين اقتصروا على الغرفة «قالوا» أي الذين شربوا «لا طاقة» قوة «لنا اليوم بجالوت وجنوده» أي بقتالهم وجبنوا ولم يجاوزوه «قال الذين يظنون» يوقنون «أنهم ملاقوا الله» بالبعث وهم الذين جاوزوه «كم» خبرية بمعني كثير «من فئة» جماعة «قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله» بإرادته «والله مع الصابرين» بالعون والنصر.
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته ومن لم يطعمه أي: لم يشرب منه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله، وتضرعا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم، فلهذا قال تعالى: فلما جاوزه أي: النهر هو أي: طالوت والذين آمنوا معه وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا... قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا أي: قال كثير منهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده لكثرتهم وعَددهم وعُددهم قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، والله مع الصابرين بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
فلما فصل طالوت بالجنود ) أي خرج بهم وأصل الفصل : القطع يعني قطع مستقره شاخصا إلى غيره فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل وقيل : ثمانون ألفا لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكوا في النصر فتسارعوا إلى الجهاد فقال طالوت : لا حاجة لي في كل ما أرى لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا أبتغي إلا الشباب النشيط الفارغ فاجتمع له ثمانون ألفا ممن شرطه وكان في حر شديد فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا : إن المياه قليلة لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا .( قال ) طالوت ( إن الله مبتليكم ) مختبركم ليرى طاعتكم - وهو أعلم - ( بنهر ) قال ابن عباس والسدي : هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين عذب ( فمن شرب منه فليس مني ) أي ليس من أهل ديني وطاعتي ( ومن لم يطعمه ) يشربه ( فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ) قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " غرفة " بفتح الغين وقرأ الآخرون بضم الغين وهما لغتان قال الكسائي : الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف والغرفة : بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر ( فشربوا منه إلا قليلا منهم ) نصب على الاستثناء واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا فقال السدي : كانوا أربعة آلاف وقال غيره : ثلاثمائة وبضعة عشر وهو الصحيح .أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة .ويروى ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إلى النهر وقد ألقي عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالما وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح .وقيل : كلهم جاوزوا ولكن لم يحضر القتال إلا الذين لم يشربوا ( فلما جاوزه ) يعني النهر ( هو ) يعني طالوت ( والذين آمنوا معه ) يعني القليل ( قالوا ) يعني الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شك ونفاق ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي : فانحرفوا ولم يجاوزوا ( قال الذين يظنون ) يستيقنون ( أنهم ملاقو الله ) الذين ثبتوا مع طالوت ( كم من فئة ) جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في الخفض والنصب ( قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) بقضائه وإرادته ( والله مع الصابرين ) بالنصر والمعونة .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- ما دار بين طالوت وجنوده فقال: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ.فَصَلَ بمعنى الفصل. قال الزمخشري: فصل عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه.وأصله فصل نفسه. ثم كثر: حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدى كانفصل. وقيل:فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا كوقف وصد ونحوهما.والمعنى انفصل عن بلده» .و (النهر) بالفتح والسكون-: المجرى الواسع الذي يجرى فيه الماء مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها.أى: فلما انفصل بهم عن المكان الذي كانوا يقيمون فيه، وتوجهوا معه لقتال جالوت وجنوده، قال لهم إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أى مختبركم وممتحنكم بنهر، وكان طالوت قد سار بهم في أرض قفرة فأصابهم عطش شديد. وفي هذا الابتلاء اختبار لعزيمتهم، وامتحان لصبرهم على المتاعب حتى يتميز من يصبر على الحرب ممن لا يصبر، ومن شأن القواد الأقوياء العقلاء أنهم يختبرون جنودهم قبل اقتحام المعارك حتى يكونوا على بينة من أمرهم. ثم بين لهم موضع الاختبار فقال: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ.يَطْعَمْهُ أى يذقه من طعم الشيء يطعمه إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا.الْغُرْفَةَ- بالضم- اسم للشيء المغترف وجمعه غراف. وأما الغرفة- بالفتح- فهي اسم للمرة الواحدة من الغرف وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.أى قال لهم طالوت: من شرب من هذا النهر فليس من شيعتي، فعليه أن يتركني ولا يصاحبنى في خوض هذه المعركة لأنه ثبت ضعفه وخوره، ومن لم يذقه أصلا فإنه من شيعتي وحزبى الذي سيكون معى في هذه المعركة الخطيرة. ثم أباح لهم أن يغترفوا من النهر غرفة يخففون بها من عطشهم فقال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فإنه لا يخرج بذلك عن كونه منى.وفي هذه الجملة الكريمة قدم- سبحانه- جواب الشرط على الاستثناء من الشرط فقد قال وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ والتأليف المعهود للناس أن يقال: (ومن لم يطعمه إلا من اغترف بيده فإنه منى) ولكن الآية الكريمة جاءت بتقديم الجواب على الاستثناء لحكمة بليغة، وهي المسارعة إلى بيان الحكم، وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم بنبيهم أن يمتثلوا أمره وألا يشربوا من النهر، ثم رخص لهم بعد ذلك في الاغتراف باليد غرفة واحدة.وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال: فإن قلت: مم استثنى قوله إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ؟ قلت: من قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي والجملة الثانية في حكم المتأخرة إلا أنها قدمت للعناية.. ومعناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع» .ثم ختم- سبحانه- ما كان من بنى إسرائيل نتيجة لهذا الامتحان فقال: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.أى: فشربوا من النهر حتى امتلأت بطونهم مخالفين بذلك أمر قائدهم في وقت تعظم فيه المخالفة لأنه وقت إقدام على الحرب، إلا عددا قليلا منهم فإنهم لم يشربوا إلا كما رخص لهم قائدهم. وعلى هذا التفسير- الذي قال به جمهور المفسرين- يكون جميع الذين مع طالوت قد شربوا من النهر إلا أن كثيرا منهم قد شربوا حتى امتلأت بطونهم مخالفين أمر قائدهم، وقلة منهم شربت غرفة واحدة وهي التي رخص لهم قائدهم في شربها.وبعض المفسرين يقسم اتباع طالوت ثلاثة أقسام:قسم شرب كثيرا مخالفا أمر طالوت.وقسم شرب غرفة واحدة بيده كما رخص له قائده.وقسم لم يشرب أصلا لا قليلا ولا كثيرا مؤثرا العزيمة على الرخصة وهذا القسم هو الذي اعتمد عليه طالوت اعتمادا كبيرا في تناوله لأعدائه.وممن ذكر هذا التقسيم من المفسرين الإمام القرطبي فقد قال: «قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة» .ثم بين- سبحانه- ما كان من أتباع طالوت بعد اجتيازهم للنهر معه فقال: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ.أى: فلما جاوز طالوت ومن معه النهر وتخطوه، وشاهدوا كثرة جند جالوت، قال بعض الذين مع طالوت لبعض بقلق ووجل: لا قدرة لنا اليوم على محاربة أعدائنا ومقاومتهم فهم أكثر منا عددا، وأوفر عددا.والضمير هُوَ في قوله: هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مؤكد للضمير المستكن في جاوز.والقائلون، هذا القول هم بعض المؤمنين الذين عبروا معه النهر، ولم يقولوا ذلك هروبا أو نكوصا عن القتال، وإنما قالوه كمظهر من مظاهر الوجل الذي يعترى بعض النفوس عند الاستعداد للقتال، لأن الذين عصوا الله وخالفوا طالوت بشربهم من النهر جبنوا عن لقاء العدو ولم يسيروا معه لقتالهم. أما المؤمنون الصادقون الذين اتصلت قلوبهم بالله، والذين أذعنوا أنه لا نصر إلا منه ولا اعتماد إلا عليه، فقد حكى القرآن موقفهم المشرف فقال: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.أى: قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم. قالوا مشجعين لإخوانهم الذين تهيبوا قتال أعدائهم: كم من جماعة قليلة بإيمانها وصبرها تغلبت بإذن الله وتيسيره على جماعة كثيرة بسبب كفرها وجبنها وتفككها، والله- تعالى- بعونه وتأييده مع الصابرين.وعلى هذا التفسير يكون المراد بلقاء الله الحشر إليه بعد الموت، ومجازاة الناس على ما قدموا من عمل، ويكون المراد بالظن اليقين لأن كل مؤمن متيقن بأن البعث حق.ويجوز أن يكون المراد بلقاء الله قربهم من رضاه يوم القيامة، وإثابتهم على جهادهم بالجنة، وعليه يكون الظن على معناه الحقيقي وهو الاعتقاد الراجح، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون سوى علام الغيوب.وكَمْ في قولهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ خبرية للتكثير، وفي هذا التعبير الذي حكاه القرآن عنهم دليل على قوة إيمانهم وصفاء نفوسهم وثقتهم في نصر الله ثقة لا تحد، لأنهم أتوا بصيغة التكثير حتى لكأنما أن القاعدة العامة هي انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة الكافرة.وفي تعليقهم النصر على إذن الله للإشعار بأنهم لم يعتمدوا على قوتهم وثباتهم وشجاعتهم فحسب وإنما جعلوا اعتمادهم الأكبر على تأييد الله لهم. وهذا شأن العقلاء يبذلون أقصى جهدهم في بلوغ غايتهم مستعينين على ذلك بتأييد الله وتوفيقه.ورحم الله الإمام القرطبي الذي عاصر دولة الإسلام في الأندلس وهي تسير في طريق الضعف والتدهور فقد قال في ختام تفسيره لهذه الآية: قلت: هكذا يجب علينا أن نفعل؟لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة، منعت من ذلك حتى انكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدو وكما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفي البخاري: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفي البخاري- أيضا- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة!! قال- تعالى-: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ وقال:وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا وقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وقال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُوقال: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا» .ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله المؤمنون الصادقون عند ما برزوا للقاء أعدائهم فقال:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى مخبرا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفا فالله أعلم ، أنه قال : ( إن الله مبتليكم [ بنهر ] ) قال ابن عباس وغيره : وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني : نهر الشريعة المشهور ( فمن شرب منه فليس مني ) أي : فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه ( ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ) أي : فلا بأس عليه قال الله تعالى ( فشربوا منه إلا قليلا منهم ) قال ابن جريج : قال ابن عباس : من اغترف منه بيده روي ، ومن شرب منه لم يرو . وكذا رواه السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس . وكذا قال قتادة وابن شوذب .وقال السدي : كان الجيش ثمانين ألفا فشرب ستة وسبعون ألفا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال .وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومسعر بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب قال : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ، وما جازه معه إلا مؤمن . ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن البراء قال : " كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت ، الذين جازوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة " .ثم رواه من حديث سفيان الثوري وزهير ، عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه ولهذا قال تعالى : ( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) أي : استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم [ وهم ] العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدد . ولهذا قالوا : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )
﴿ تفسير القرطبي ﴾
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود " فصل " معناه خرج بهم . فصلت الشيء فانفصل ، أي قطعته فانقطع . قال وهب بن منبه : فلما فصل طالوت قالوا له : إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا فقال لهم طالوت : إن الله مبتليكم بنهر . وكان عدد الجنود - في قول السدي - ثمانين ألفا . وقال وهب : لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض . والابتلاء : الاختبار . والنهر والنهر لغتان . واشتقاقه من السعة ، ومنه النهار وقد تقدم . قال قتادة : النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين . وقرأ الجمهور " بنهر " بفتح الهاء . وقرأ مجاهد وحميد الأعرج " بنهر " بإسكان الهاء . ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه مطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهوته في الماء وعصى الأمر فهو في العصيان في الشدائد أحرى ، فروي أنهم أتوا النهر وقد نالهم عطش وهو في غاية العذوبة والحسن ، فلذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال . وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين همهم في غير الرفاهية ، كما قال عروة :واحسوا قراح الماء والماء باردقلت : ومن هذا المعنى قوله عليه السلام : حسب المرء لقيمات يقمن صلبه . وقاله بعض من يتعاطى غوامض المعاني : هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا فشبهها الله بالنهر والشارب منه والمائل إليها والمستكثر منها والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها ، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة ، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة .قلت : ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر ، لكن معناه صحيح من غير هذا .الثانية : استدل من قال إن طالوت كان نبيا بقوله : " إن الله مبتليكم " وأن الله أوحى إليه بذلك وألهمه ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم . ومن قال لم يكن نبيا قال : أخبره نبيهم شمويل بالوحي حين أخبر طالوت قومه بهذا ، وإنما وقع هذا الابتلاء ليتميز الصادق من الكاذب . وقد ذهب قوم إلى أن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم ؛ لكنه حمل مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم ، وسيأتي بيانه في ( النساء ) إن شاء الله تعالى .الثالثة : قوله تعالى : فمن شرب منه فليس مني شرب قيل معناه كرع . ومعنى فليس مني أي ليس من أصحابي في هذه الحرب ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان . قال السدي : كانوا ثمانين ألفا ، ولا محالة أنه كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان ، وفي الحديث من غشنا فليس منا أي ليس من أصحابنا ولا على طريقتنا وهدينا . قال ( هو النابغة الذبياني ) :إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست منيوهذا مهيع في كلام العرب ، يقول الرجل لابنه إذا سلك غير أسلوبه : لست مني .الرابعة : قوله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني يقال : طعمت الشيء أي ذقته . وأطعمته الماء أي أذقته ، ولم يقل ومن لم يشربه لأن من عادة العرب إذا كرروا شيئا أن يكرروه بلفظ آخر ، ولغة القرآن أفصح اللغات ، فلا عبرة بقدح من يقول : لا يقال طعمت الماء .الخامسة : استدل علماؤنا بهذا على القول بسد الذرائع ؛ لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ، ولهذه المبالغة لم يأت الكلام " ومن لم يشرب منه " .السادسة : لما قال تعالى : ومن لم يطعمه دل على أن الماء طعام وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به فوجب أن يجري فيه الربا ، قال ابن العربي : وهو الصحيح من المذهب . قال أبو عمر قال مالك : لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمد بن الحسن : هو مما يكال ويوزن ، فعلى هذا القول لا يجوز عند التفاضل ، وذلك عنده فيه ربا ؛ لأن علته في الربا الكيل والوزن . وقال الشافعي : لا يجوز بيع الماء متفاضلا ولا يجوز فيه الأجل ، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا .السابعة : قال ابن العربي قال أبو حنيفة : من قال إن شرب عبدي فلان من الفرات فهو حر فلا يعتق إلا أن يكرع فيه ، والكرع أن يشرب الرجل بفيه من النهر ، فإن شرب بيده أو اغترف بالإناء منه لم يعتق ؛ لأن الله سبحانه فرق بين الكرع في النهر وبين الشرب باليد . قال : وهذا فاسد لأن شرب الماء يطلق على كل هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد أو كرع بالفم انطلاقا واحدا ، فإذا وجد الشرب المحلوف عليه لغة وحقيقة حنث ، فاعلمه .قلت : قول أبي حنيفة أصح ، فإن أهل اللغة فرقوا بينهما كما فرق الكتاب والسنة . قال الجوهري وغيره : وكرع في الماء كروعا إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء ، وفيه لغة أخرى ( كرع ) بكسر الراء يكرع كرعا . والكرع : ماء السماء يكرع فيه . وأما السنة فذكر ابن ماجه في سننه : حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا ابن فضيل عن ليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال : مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها فإنه ليس إناء أطيب من اليد وهذا نص . وليث بن أبي سليم خرج له مسلم وقد ضعف .الثامنة : قوله تعالى : إلا من اغترف غرفة بيده الاغتراف : الأخذ من الشيء باليد وبآلة ، ومنه المغرفة ، والغرف مثل الاغتراف . وقرئ " غرفة " بفتح الغين وهي مصدر ، ولم يقل ( اغترافة ) ؛ لأن معنى الغرف والاغتراف واحد . والغرفة المرة الواحدة . وقرئ " غرفة " بضم الغين وهي الشيء المغترف . وقال بعض المفسرين : الغرفة بالكف الواحد والغرفة بالكفين . وقال بعضهم : كلاهما لغتان بمعنى واحد . وقال علي رضي الله عنه : الأكف أنظف الآنية ، ومنه قول الحسن :لا يدلفون إلى ماء بآنية إلا اغترافا من الغدران بالراحالدليف : المشي الرويد .قلت : ومن أراد الحلال الصرف في هذه الأزمان دون شبهة ولا امتراء ولا ارتياب فليشرب بكفيه الماء من العيون والأنهار المسخرة بالجريان آناء الليل وآناء النهار ، مبتغيا بذلك من الله كسب الحسنات ووضع الأوزار واللحوق بالأئمة الأبرار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى ابن مريم عليهما السلام إذ طرح القدح فقال أف هذا مع الدنيا . خرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع ، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة ، وقال : لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلا أن يكون إناء مخمرا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء . . . الحديث كما تقدم ، وفي إسناده بقية بن الوليد ، قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال أبو زرعة : إذا حدث بقية عن الثقات فهو ثقة .التاسعة : فشربوا منه إلا قليلا منهم قال ابن عباس : شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب الهيم وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو ، بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة .العاشرة : قوله تعالى : فلما جاوزه هو الهاء تعود على النهر ، و " هو " توكيد . " والذين " في موضع رفع عطفا على المضمر في " جاوزه " يقال : جاوزت المكان مجاوزة وجوازا . والمجاز في الكلام ما جاز في الاستعمال ونفذ واستمر على وجهه . قال ابن عباس والسدي : جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب ، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، فعلى هذا القول قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . وأكثر المفسرين : على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة ، فقال بعضهم : كيف نطيق العدو مع كثرتهم! فقال أولو العزم منهم : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . قال البراء بن عازب : كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا - وفي رواية : وثلاثة عشر رجلا - وما جاز معه إلا مؤمن .الحادية عشرة : قوله تعالى : قال الذين يظنون والظن هنا بمعنى اليقين ، ويجوز أن يكون شكا لا علما ، أي قال الذين يتوهمون أنهم يقتلون مع طالوت فيلقون الله شهداء ، فوقع الشك في القتل .قوله تعالى : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة الفئة : الجماعة من الناس والقطعة منهم ، من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته . وفي قولهم رضي الله عنهم : ( كم من فئة قليلة ) الآية ، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه .قلت : هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا وفي البخاري : قال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم . وفيه مسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم . فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة . قال الله تعالى : اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله ، وقال : وعلى الله فتوكلوا ، وقال : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وقال : ولينصرن الله من ينصره ، وقال : إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون . فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره ، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا ، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْقال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة, فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم, وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله: " فلما فصل طالوت بالجنود ". وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له, لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها.* * *وأما قوله: " فصل " فإنه يعني به: شخص بالجند ورحل بهم.* * *وأصل " الفصل " القطع, يقال، منه: " فصل الرجل من موضع كذا وكذا ", يعني به قطع ذلك, فجاوزه شاخصا إلى غيره," يفصل فصولا "، و " فصل العظم والقول من غيره، فهو يفصله فصلا "، إذا قطعه فأبانه، و " فصل الصبي فصالا "، إذا قطعه عن اللبن (1) . و " قول فصل "، يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد.* * *وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل, لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته, أو كبير لهرمه, أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه.* ذكر من قال ذلك:5707- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له, ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة, أو ضرير معذور, أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها. (2)5708- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون, وسلموا ملك طالوت, فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. (3)* * *قال أبو جعفر: فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا، قال: " إن الله مبتليكم بنهر "، يقول: إن الله مختبركم بنهر, ليعلم كيف طاعتكم له.* * *وقد دللنا على أن معنى " الابتلاء "، الاختبار، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (4)* وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول.5709- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قول الله تعالى: " إن الله مبتليكم بنهر "، قال: إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.* * *وقيل: إن طالوت قال: " إن الله مبتليكم بنهر "، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم, وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا, فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله: " إن الله مبتليكم بنهر ".* ذكر من قال ذلك:5710- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا, فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت: " إن الله مبتليكم بنهر " الآية.* * *" والنهر " الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به، قيل: هو نهر بين الأردن وفلسطين.* ذكر من قال ذلك:5712- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: " إن الله مبتليكم بنهر "، قال الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.5712- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " إن الله مبتليكم بنهر "، قال: ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين.5713- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قوله: " إن الله مبتليكم بنهر "، قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين.5714- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت, قال طالوت لبني إسرائيل: " إن الله مبتليكم بنهر "، قال: نهر بين فلسطين والأردن, نهر عذب الماء طيبه.وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين.* ذكر من قال ذلك:5715- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: " إن الله مبتليكم بنهر "، فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل، نهر فلسطين.5716- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: " إن الله مبتليكم بنهر "، هو نهر فلسطين.* * *وأما قوله: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم ". فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده، إذ شكوا إليه العطش, فأخبر أن الله مبتليهم بنهر, (5) ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر, هو أن من شرب من مائه فليس هو منه= يعني بذلك: أنه ليس من أهل ولايته وطاعته, ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ، وأخبرهم أنه من لم يطعمه= يعني: من لم يطعم الماء من ذلك النهر." والهاء " في قوله: " فمن شرب منه "، وفي قوله: " ومن لم يطعمه "، عائدة على " النهر ",والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر " الماء " اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك: (6) أن المراد به الماء الذي فيه.* * *ومعنى قوله: " لم يطعمه "، لم يذقه, يعني: ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني= يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من " من " في قوله: " ومن لم يطعمه "، المغترفين بأيديهم غرفة, (7) فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر، (8) إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني.* * *ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: " إلا من اغترف غرفة بيده " .فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (غرفة)، بنصب " الغين " من " الغرفة " بمعنى الغرفة الواحدة, من قولك،" اغترفت غرفة ", و " الغرفة "، و " الغرفة " هي الفعل بعينه من " الاغتراف ". (9) .* * *وقرأه آخرون بالضم, بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف. ف " الغرفة " الاسم, و " الغرفة " المصدر.* * *وأعجب القراءتين في ذلك إلي، ضم " الغين " في" الغرفة "، بمعنى: إلا من اغترف كفا من ماء= لاختلاف " غرفة " إذا فتحت غينها, وما هي له مصدر. وذلك أن مصدر " اغترف "،" اغترافة ", وإنما " غرفة " مصدر: " غرفت ". فلما كانت " غرفة " مخالفة مصدر " اغترف "، كانت " الغرفة " التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا، أشبه منها ب " الغرفة " التي هي بمعنى الفعل. (10)* * *قال أبو جعفر: وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء, فكان من شرب منه عطش, ومن اغترف غرفة روي .* ذكر من قال ذلك:5717- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم "، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون, وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه.5718- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده "، قال: كان الكفار يشربون فلا يروون, وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.5719- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم "، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا، فشربوا منه إلا قليلا منهم= يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه.5720- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت, آمنوا بنبوة شمعون, وسلموا ملك طالوت, فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا, فخرج يسير بين يدي الجند, ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم طالوت: " إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني"، فشربوا منه هيبة من جالوت, فعبر منهم أربعة آلاف, (11) ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش, ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي. (12) .5721- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود, فقال: لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن, ولم يتبعه منافق،... رجعوا كفارا، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا: " لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير " = (13) وذلك أنه قال لهم: " إن الله مبتليكم بنهر "، الآية، فقالوا: لن نمس من هذا، غرفة ولا غير غرفة = (14) قال: وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم, وفضل منهم. (15) قال: والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها.5722- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده "، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه، روي لطاعته. (16) ومن شرب فأكثر، عصى فلم يرو لمعصيته.5723- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في حديث ذكره, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه في قوله: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده "، يقول الله تعالى ذكره: " فشربوا منه إلا قليلا منهم "، وكان -فيما يزعمون- من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه, ومن لم يطعمه إلا كما أمر: غرفة بيده، أجزاه وكفاه.* * *القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فلما جاوزه هو "، فلما جاوز النهر طالوت." والهاء " في" جاوزه " عائدة على " النهر ", و " هو " كناية اسم طالوت= وقوله: " والذين آمنوا معه "، يعني: وجاوز النهر معه الذين آمنوا، قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.* * *ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ، ومن قال منهم: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ".فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر: ثلثمئة رجل وبضعة عشر رجلا.* ذكر من قال ذلك:5724- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري= قالا جميعا، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق, عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه, ولم يجز معه إلا مؤمن: ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. (17)5725- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا أبو إسحاق, عن البراء قال: كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر. (18)5726- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه, وما جاز معه إلا مؤمن. (19)5727- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء بنحوه. (20)5728- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر, وما جاوز معه إلا مسلم. (21)5729- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مسعر, عن أبي إسحاق, عن البراء مثله. (22)5730- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.5731- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: محص الله الذين آمنوا عند النهر، وكانوا ثلثمئة, وفوق العشرة ودون العشرين, فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة.* * *وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف, وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق، حين لقوا جالوت.* ذكر من قال ذلك:5732- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف, فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت، رجعوا أيضا وقالوا: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ". فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون, وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر، عدة أهل بدر. (23)5733- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه, قال الذين شربوا: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ".* * *قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة, والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه, وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق= (24) وهم الذين قالوا: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " = ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم, وهم أهل الثبات على الإيمان, فقالوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ .* * *فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم, ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة, لأن الله تعالى ذكره قال: " فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ"، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان, على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب, ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان= (25) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان- أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر, وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم, عن المؤمنين بالمجاوزة, لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر, وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين .والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، قول الله تعالى ذكره: " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله "، فأوجب الله تعالى ذكره أن الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ ، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ، دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله- وأن " الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله "، هم الذين قالوا: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله، أو شك فيه. (26)* * *القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين= أعني القائلين: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده "، والقائلين: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله "، من هما؟فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده "، هم أهل كفر بالله ونفاق, وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده, لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه, وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر.* ذكر من قال ذلك:5734- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي بذلك.* * *وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا. (27)* * *5735- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله "، الذين اغترفوا وأطاعوا، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون, وجلس الذين شكوا.* * *وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان, ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة, بل كانوا جميعا أهل طاعة, ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ". والآخرون كانوا أضعف يقينا. وهم الذين قالوا: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ".* ذكر من قال ذلك:5736- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين "، ويكون [والله] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض, وهم مؤمنون كلهم. (28)5737- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله "، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت: ثلثمئة. = قال قتادة: وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر.5438- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا, وهم الذين قالوا : " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ".* * *ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب: أنه لم يجاوز النهر مع طالوت إلا عدة أصحاب بدر- أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به، أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد.* * *قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا. (29)* * *وأما تأويل قوله: " قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله "، فإنه يعني: قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله. (30)5739- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي" قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله "، الذين يستيقنون.* * *فتأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله، للذين قالوا: " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده "=" كم من فئة قليلة "، يعني ب " كم "، كثيرا، غلبت فئة قليلة=" فئة كثيرة بإذن الله ", يعني: بقضاء الله وقدره= (31) " والله مع الصابرين "، يقول : مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته. (32)* * *وقد أتينا على البيان عن وجوه " الظن "، وأن أحد معانيه: العلم اليقين، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى, فكرهنا إعادته. (33)* * *وأما " الفئة "، فإنهم الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه, وهو مثل " الرهط" و " النفر "، يجمع (34) " فئات "، و " فئون " في الرفع، و " فئين " في النصب والخفض، بفتح نونها في كل حال. و " فئين " بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها, وفي النصب " فئينا ", وفي الخفض " فئين ", فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها. وفي كل ذلك مقرة فيها " الياء " على حالها. فإن أضيفت قيل: " هؤلاء فئينك "، (35) بإقرار النون وحذف التنوين, كما قال الذين لغتهم: " هذه سنين "، في جمع " السنة "=: " هذه سنينك "، بإثبات النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة. وكذلك العمل في كل منقوص مثل " مئة " و " ثبة " و " قلة " و " عزة ": فأما ما كان نقصه من أوله، فإن جمعه بالتاء، مثل " عدة وعدات "، و " صلة وصلات ".* * *وأما قوله: " والله مع الصابرين " فإنه يعني: والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته, وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله, المخالفين منهاج دينه.* * *وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره: " هو معه "، بمعنى هو معه بالعون له والنصرة. (36)----------------الهوامش :(1) انظر تفسير"الفصال" فيما سلف من هذا الجزء : 67 .(2) الأثر : 5707- استوسقوا له : اجتمعوا له بالطاعة : ودانوا ، (انظر ما سلف ص : 231) في آخر الأثر : 5659 ، والتعليق عليه . والضرير : المرض المهزول ، قد أضر به المرض .(3) الأثر : 5708- في التاريخ 1 : 243 من خبر طويل مضى أكثره فيما سلف .(4) انظر ما سلف 2 : 49/3 : 7 ، 220 .(5) في المخطوطة والمطبوعة : "00 عن طالوت أنه قال لجنوده ، 00 فأخبر أن الله" ، وهي عبارة لا تستقيم علي جادة الكلام ، فجعلت"أنه" ، "بما" ، وجعلت"فأخبر" ، "فأخبرهم" . وأعود فأقول إن الناسخ في هذا الموضع كثير السهو والخطأ من فرط عجلته .(6) في المخطوطة والمطبوعة : "كذلك" ، والصواب ما أثبت ، وسياق العبارة : اكتفاء بفهم السامع لذلك بذكر النهر : أن المراد00(7) أكثر المفسرين قد جعل الاستثناء من قوله : "فن شرب منه" ، وقال أبوحيان في تفسيره 1 : 265 وقال : "وقع في بعض التصانيف ما نصه : "إلا من اغترف" ، استثناء من الأولى ، وإن شئت من الثانية ، لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه ، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه . والأمر ليس كذلك ، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه . وهو ظاهر الاستثناء من الأولى ، لأنه حكم فيها : أن من شرب منه فليس منه ، فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه ، فإنه منه ، إذ هو مفسوح له في ذلك . وهكذا الإستثناء ، يكون من النفى إثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، على الصحيح من المذاهب في هذه المسالة" .وانظر أيضًا تعليق ابن المنير على الكشاف بهامش 1 : 149- 150 ، وأما العكبري في إعراب القرآن إنه قال : "إلا من اغترب-استثناء من الجنس ، وموضعه نصب . وأنت بالخيار ، إن شئت جعلته استثناء من"من الأولى ، وإن شئت من"من"الثانية" . وهذا يرجع صواب معنى الطبري ، وصواب ما صححناه ، فإنهكان في المخطوطة والمطبوعة : "ثم استثنى من قوله00" . والمخطوطة كما أسلف مرارا مضطربة في هذا الموضع ، وفي مواضع من أشياء ذلك . وسترى ذلك في التعليق التالي .والظاهر أن الطبري أراد أن القوم كانوا فئتين : فئه شربت من الماء ، وفئة مؤمنة لم تطعم من الماء إلا غرفة . وبذلك يصح كل ما قاله . وهذا بين سيأتي بعد في ص 348- 350 أن من جاوز مع طالوت النهر : الذي لم يشرب من الماء إلا الغرفة ، والكافر الذي شرب منه الكثير" . وكأن المؤمنين جميعا -عنده- قد شربوا من الماء غرفة . هذا ما أرجحه ، والله ولى التوفيق .(8) في المخطوطة : "فقالوا : من لم يطعم ومن لم يطعم ماء ذلك النهر00" وهو خلط من الكلام .(9) "الفعل" يعني المصدر ، كما سلف آنفًا ص : 330 تعليق : 1 ، وكما سيصرح به الجمل التالية إلى آخر الكلام .(10) هذا تفصيل جيد قلما تصيبه في كتب اللغة . وانظر اللسان مادة (غرف) وقوله الكسائي وغيره في ذلك .(11) في المطبوعة والمخطوطة : "فعبر منهم" بإسقاط"معه" ، وأثبتها من التاريخ .(12) الأثر : 5720-هو جزء من الخبر الذي في التاريخ 1 : 242- 243 ، وقد جزأه الطبري في هذا التفسير في مواضع كثيرة أشرنا إليها رقم : 5635 ، 5638 ، 5679 ، 5690 ، 5708 .(13) في المخطوطة : "ولم تتبعه منافق ، رجعوا كفارا ، فلما رأى قلتهم قالوا : لن نمس هذه الماء" وكلتا العبارتين لا تستقيم في الحالتين . وأنا أرجح أنه قد سقط من الناسخ سطر أو بعض سطر ، معناه : أن بعض الذين خرجوا معه ، رجعوا كفارا لكذبهم في قيلهم ذلك . و الذى يرجح ذلك عندي أنه يقول بعد"قال : وأخذ البقية الغرفة" ، فهذا دليل على أنه قد أجرى قبل ذلك ذكر الذين شربوا من النهر . فن هذا ، وقد كان في المطبوعة : "ولا غيرها" ، فأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب .(14) في المطبوعة : "لن نمس من هذا" بزيادة"من" ، وأثبت ما في المخطوطة .(15) في المطبوعة : "فشربوا منها" ، وأثبت ما في المخطوطة .(16) في المطبوعة : "روي بطاعته" والذي أثبت ، أشبه بالمخطوطة وبالصواب .(17) الحديث : 5724 - هذا الحديث عن البراء بن عازب في عدة أهل بدر . وقد رواه الطبري بستة أسانيد ، كلها عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب .ورواه أحمد في المسند 4 : 290 (حلبي) ، عن وكيع عن أبيه -هو الجراح بن مليح- وسفيان . وهو الثوري ، وإسرائيل ، ثلاثتهم عن أبي إسحاق ، عن البراء .ورواه البخاري 8 : 228 ، من طريق زهير ، ومن طريق إسرائيل ، ومن طريق الثوري - ثلاثتهم عن أبي إسحاق ، به .وذكره ابن كثير 1 : 603 ، عن روايات الطبري ، ملخصة الأسانيد . ثم ذكر أنه رواه البخاري .وذكره السيوطي 1 : 318 ، وزاد نسبته لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل . ولكنه نسي أن ينسبه لأحمد .(18) الحديث : 5725-أبو بكر-الراوى عن أبي إسحاق : هو ابن عياش .وقد ذكر أخي السيد محمود محمد شاكر أنه وجد في المخطوطة ، في آخر هذا الحديث"كلمة غريبة جدا ، بعد قوله" الذين جاوزوا النهر" وهي"فسكت"-واضحة جدا . ولم أجدها في مكان آخر ولم أستطع أن أعرف ما هي . وقد حذفت في المطبوعة" .وأقول : إني لم أجد-أيضًا- هذه الكلمة ، ولم أستطع أن أعرف ما هي؟ ولذلك رأينا حذفها من مطبوعتنا هذه ، مع بيان ذلك ، أداء للأمانة العلمية .(19) احديث : 5726-أبو عامر : هو العقدي ، عبد الملك بن عمرو .(20) الحديث : 5727-والد وكيع : هو الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي ، وهو ثقة ، تكلم فيه بغير حجة ، كما بينا في شرح المسند ، في الحديث : 650 . ورواية وكيع عن أبيه هذا الحديث- هي إحدى روايات المسند ، التي أشرنا إليها في الحديث الماضي : 5724 .(21) الحديث : 5728-مؤمل : هو ابن إسماعيل العدوى . وسفيان-في هذا والذي قبله : هو الثوري .(22) الحديث : 5729 -أبو أحمد : هو الزبيري ، محمد بن عبدالله بن الزبير الأسدي . مسعر : هو ابن كدام ، مضت ترجمته في : 1974 .(23) الأثر : 5732 -هو جزء من الأثر الطويل الذى رواه في التاريخ 1 : 242- 243 ، وجزأه في التفسير ، كما أشرنا إليه في التعليق على الأثر : 5720 . ورواية أبي جعفر هنا : "وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر" ، وفي التاريخ"وتسعة عشر" .(24) في المطبوعة : "وانخذل عنه" ، بالذال ، وهو خطأ غث لا يقال هنا ، والصواب في المخطوطة . وانخزل عنه : انقطع وانفرد ، وفي حديث آخر : "انخزل عبدالله بن أبي من ذلك المكان" ، أي انفرد ورجع بقومه .(25) السياق : "فإن ظن ذو غفلة00 فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن" .(26) هذه حجة بينة ماضية ، تتضمن من البصر والفهم والدقة ما ينبغي أن يوقف عنده .(27) انظر الأثر رقم : 5722 .(28) ما بين القوسين زيادة من المخطوطة .(29) انظرما سلف : 349 ، 350 .(30) انظر القول في قوله : "ملاقو الله" فيما سلف 2 : 20-22 /4 : 419 .(31) انظر تفسي"الإذن" فيما سلف 2 : 449 ، 450/ 4 : 287 ، 371 .(32) انظر معنى"الصبر" فيما سلف 2 : 11 ، 124/ 3 : 214 ، 349 ، وفهارس اللغة .(33) انظر ما سلف 2 : 17 - 20/ ثم : 265 .(34) في المطبوعة : "جمعه" ، وأثبت ما في المخطوطة .(35) في المطبوعة : " فئنك" ، وهو خطأ .(36) انظر تفسير"فيما سلف 3 : 214 .
﴿ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾