ويوم يعرض الذين كفروا على النار للعذاب، فيقال لهم توبيخًا: لقد أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فاليوم - أيها الكفار- تُجْزَون عذاب الخزي والهوان في النار؛ بما كنتم تتكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تخرجون عن طاعة الله.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«ويوم يُعرض الذي كفروا على النار» بأن تكشف لهم يقال لهم «أذهبتم» بهمزة وبهمزتين وبهمزة ومدة وبهما وتسهيل الثانية «طيباتكم» باشتغالكم بلذاتكم «في حياتكم الدنيا واستمتعتم» تمتعتم «بها فاليوم تجزون عذاب الهُون» أي الهوان «بما كنتم تستكبرون» تتكبرون «في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون» به وتعذبون بها.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يوبخون ويقرعون فيقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا حيث اطمأننتم إلى الدنيا، واغتررتم بلذاتها ورضيتم بشهواتها وألهتكم طيباتها عن السعي لآخرتكم وتمتعتم تمتع الأنعام السارحة فهي حظكم من آخرتكم، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ أي: العذاب الشديد الذي يهينكم ويفضحكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق، أي: تنسبون الطريق الضالة التي أنتم عليها إلى الله وإلى حكمه وأنتم كذبة في ذلك، وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي: تتكبرون عن طاعته، فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على الله بنسبته إلى رضاه والقدح في الحق والاستكبار عنه فعوقبوا أشد العقوبة.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( ويوم يعرض الذين كفروا على النار ) فيقال لهم : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : " أأذهبتم " ، بالاستفهام ويهمز ابن عامر همزتين ، والآخرون بلا استفهام على الخبر ، وكلاهما فصيحان ، لأن العرب تستفهم بالتوبيخ ، وترك الاستفهام فتقول : أذهبت ففعلت كذا ؟ ( واستمتعتم بها ) يقول : أذهبتم طيباتكم يعني اللذات وتمتعتم بها ؟ ( فاليوم تجزون عذاب الهون ) أي العذاب الذي فيه ذل وخزي ( بما كنتم تستكبرون ) [ تتكبرون ] ( في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) فلما وبخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة .وروينا عن عمر قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الرمال بجنبه ، فقلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله ، فقال : " أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا " .أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد يحدث ، عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن المنصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا وما هو إلا الماء والتمر ، غير أن جزى الله نساء من الأنصار خيرا ، كن ربما أهدين لنا شيئا من اللبن .أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي ، حدثنا ثابت بن يزيد ، عن هلال بن خباب عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاويا ، وأهله لا يجدون عشاء ، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير .أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا روح بن أسلم ، حدثنا أبو حاتم البصري ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال " .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، [ حدثنا محمد بن إسماعيل ] حدثنا يوسف بن عيسى ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أنه قال : لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار وإما كساء ، قد ربطوا في أعناقهم ، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته .أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني ، حدثنا أبو طاهر محمد بن الحارث ، حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن مبارك ، عن شعبة بن الحجاج ، عن سعد بن إبراهيم ، [ عن أبيه إبراهيم ] أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما ، فقال : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه ، قال : وأراه قال : وقتل حمزة وهو خير مني ، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا بردة ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ، أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام .وقال جابر بن عبد الله : رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر ؟ قلت : اشتهيت لحما فاشتريته ، فقال عمر : أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريت ، أما تخاف هذه الآية : " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حال سيئة فقال: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا ...والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكر. وقوله يُعْرَضُ من العرض بمعنى الوقوف على الشيء، وتلقى ما يترتب على هذا الوقوف على هذا الشيء من خير أو شر.والمراد بالعرض على النار هنا: مباشرة عذابها، وإلقائهم فيها، ويشهد لهذا قوله- تعالى- بعد ذلك وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ، قالُوا: بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.قال الآلوسى: قوله: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ. أى: يعذبون بها، من قولهم: عرض بنو فلان على السيف، إذا قتلوا به، وهو مجاز شائع.. .وقوله: أَذْهَبْتُمْ.. إلخ مقول لقول محذوف. وهذا اللفظ قرأه ابن كثير وابن عامر أأذهبتم بهمزتين على الاستفهام الذي هو للتقريع والتوبيخ، وقرأه الجمهور أَذْهَبْتُمْ بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام.أى: واذكر- أيها العاقل- لتعتبر وتتعظ، يوم يقف الذين كفروا على النار، فيرون سعيرها ثم يلقون فيها، ويقال لهم- على سبيل الزجر والتأنيب- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا أى: ضيعتم وأتلفتم الطيبات التي أنعم الله بها عليكم في حياتكم الدنيا، حيث اسْتَمْتَعْتُمْ بِها استمتاعا دنيويا دون أن تدخروا للآخرة منها شيئا..فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أى: تجزون عذاب الهون والخزي والذل.بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أى: بسبب استكباركم في الأرض بغير الحق..وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أى: وبسبب خروجكم في الدنيا عن طاعة الله- تعالى-، وعن هدى أنبيائه.وقيد- سبحانه- استكبارهم في الأرض بكونه بغير الحق، ليسجل عليهم هذه الرذيلة، وليبين أنهم قوم دينهم التكبر والغرور وإيثار اتباع الباطل على الحق.قال الجمل: والحاصل أنه- تعالى- علل ذلك العذاب بأمرين:أحدهما: الاستكبار والترفع وهو ذنب القلب.والثاني: الفسق وهو ذنب الجوارح، وقدم الأول على الثاني، لأن أحوال القلب أعظم وقعا من أعمال الجوارح .ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن مصارع الغابرين الذين كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من مشركي قريش، لكي يعتبروا بهم، ويقلعوا عن كفرهم، حتى لا يكون مصيرهم كمصير من سبقوهم في الكفر والطغيان، فقال- سبحانه-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا . وقد تورع [ أمير المؤمنين ] عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن كثير من طيبات المآكل والمشارب ، وتنزه عنها ، ويقول : [ إني ] أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقرعهم : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها )وقال أبو مجلز : ليتفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا ، فيقال لهم : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا )وقوله : ( فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) فجوزوا من جنس عملهم ، فكما نعموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق ، وتعاطوا الفسق والمعاصي ، جازاهم الله بعذاب الهون ، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة ، والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة ، أجارنا الله من ذلك كله .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .قوله تعالى : ويوم يعرض أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض . الذين كفروا على النار أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها أي يقال لهم أذهبتم ، فالقول مضمر . وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية ويعقوب وابن كثير ( أأذهبتم ) بهمزتين مخففتين ، واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو حيوة وهشام ( آذهبتم ) بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام . الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر ، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام ، وقد تقدم . واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي ، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم ، فهذه عليها جلة الناس . وترك الاستفهام أحسن ; لأن إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك ، كما تقول : أنا ظلمتك ؟ تريد أنا لم أظلمك . وإثباته حسن أيضا ، يقول القائل : ذهبت ؟ فعلت كذا ؟ ، يوبخ ويقول : أذهبت ؟ فعلت ؟ . كل ذلك جائز . ومعنى أذهبتم طيباتكم أي : تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات ، يعني المعاصي . فاليوم تجزون عذاب الهون أي عذاب الخزي والفضيحة . قال مجاهد : الهون الهوان . قتادة : بلغة قريش .[ قوله تعالى : ] بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق أي تستعلون على أهلها بغير استحقاق . وبما كنتم تفسقون في أفعالكم بغيا وظلما . وقيل : أذهبتم طيباتكم أي : أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي . قال ابن بحر : الطيبات الشباب والقوة ، مأخوذ من قولهم : ذهب أطيباه ، أي : شبابه وقوته . قال الماوردي : ووجدت الضحاك قاله أيضا .قلت : القول الأول أظهر ، روى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق ، ولكني أستبقي حسناتي ، فإن الله - عز وجل - وصف أقواما فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وقال أبو عبيد في حديث عمر : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة . وفي بعض الحديث : وأفلاذ . قال أبو عمرو وغيره : الصلاء ( بالمد والكسر ) : الشواء ، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار . والصلاء أيضا : صلاء النار ، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت : صلى النار . والصناب : الأصبغة المتخذة من الخردل والزبيب . قال أبو عمرو : ولهذا قيل للبرذون : صنابي ، وإنما شبه لونه بذلك . قال : والسلائق ( بالسين ) هو ما يسلق من البقول وغيرها . وقال غيره : هي الصلائق بالصاد ، قال جرير :تكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالصلائق والصنابوالصلائق : الخبز الرقاق العريض . وقد مضى هذا المعنى في ( الأعراف ) . وأما الكراكر فكراكر الإبل ، واحدتها كركرة وهي معروفة ، هذا قول أبي عبيد . وفي الصحاح : والكركرة رحى زور البعير ، وهي إحدى النفثات الخمس . والكركرة أيضا الجماعة من الناس . وأبو مالك عمرو بن كركرة رجل من علماء اللغة . قال أبو عبيد : وأما الأفلاذ فإن واحدها فلذ ، وهي القطعة من الكبد . قال أعشى باهلة :تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمروقال قتادة : ذكر لنا أن عمر - رضي الله عنه - قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما ، وألينكم لباسا ، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة . ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله قال : هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير فقالخالد بن الوليد : لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال : لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام ، وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بونا بعيدا . وفي صحيح مسلم وغيره أن عمر - رضي الله عنه - دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مشربته حين هجر نساءه قال : فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا جلودا معطونة قد سطع ريحها ، فقلت : يا رسول الله ، أنت رسول الله وخيرته ، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير ؟ قال : فاستوى جالسا وقال : ( أفي شك أنت يا ابن الخطاب . أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ) فقلت : استغفر لي فقال : ( اللهم اغفر له ) .وقال حفص بن أبي العاص : كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخبز والزيت ، والخبز والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأقل ذلك اللحم الغريض . وكان يقول : لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله ، فجيء بخبز متفلع غليظ ، فجعل يأكل ويقول : كلوا ، فجعلنا لا نأكل ، فقال : ما لكم لا تأكلون ؟ فقلنا : والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا ، فقال : يا ابن أبي العاص أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا ، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشن عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، أجل ما تنعت العيش ، قال : أجل والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم في العيش ولكني سمعت الله تعالى يقول لأقوام : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون أي : الهوان . بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق أي : تتعظمون عن طاعة الله وعلى عباد الله . وبما كنتم تفسقون تخرجون عن طاعة الله . وقال جابر : اشتهى أهلي لحما فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : ما هذا يا جابر ؟ فأخبرته ، فقال : أوكلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية : أذهبتم طيباتكم الآية . قال ابن العربي : وهذا عتاب منه له على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء ، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء . فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله . والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : على المرء أن يأكل ما وجد ، طيبا كان أو قفارا ، ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، ولا يعتمد أصلا ، ولا يجعله ديدنا . ومعيشة النبي - صلى الله عليه وسلم - معلومة ، وطريقة الصحابة منقولة ، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير ، والله يهب الإخلاص ، ويعين على الخلاص برحمته . وقيل : إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة ، وهو حسن ، فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه ، فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه . والله أعلم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)يقول تعالى ذكره: ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بِاللَّهِ ( عَلَى النَّارِ ) يقال لهم ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) فيها.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ) قرأ يزيد حتى بلغ ( وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) تعلمون والله أن أقواما يشترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع, ولا قوّة إلا بالله. ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما, وألينكم لباسا, ولكني أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنه لما قدم الشأم, صنع له طعام لم ير قبله مثله, قال: هذا لنا, فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنة, فاغرورقت عينا عمر, وقال: لئن كان حظنا في الحطام, وذهبوا- قال أبو جعفر فيما أرى أنا- بالجنة, لقد باينونا بونا بعيدا.وذُكر لنا " أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل على أهل الصفة مكانا يجتمع - فيه فقراء المسلمين, وهم يرقَعون ثيابهم بالأدَم, ما يجدون لها رقاعا, قال: أنتم اليوم خير, أو يوم يغدو أحدكم في حلة, ويروح في أُخرى, ويغدى عليه بحفنة, ويُراح عليه بأخرى, ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا: نحن يومئذ خير, قال: " بل أنتم اليوم خير " .حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قال: حدثنا صاحب لنا عن أبي هريرة, قال: إنما كان طعامنا مع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الأسودين: الماء, والتمر, والله ما كنا نرى سمراءكم هذه, ولا ندري ما هي.قال: ثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعريّ, عن أبيه, قال: أي بنيّ لو شهدتنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ونحن مع نبينا إذا أصابتنا السماء, حسبت أن ريحنا ريح الضأن, إنما كان لباسنا الصوف.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قول الله عزّ وجلّ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا )... إلى آخر الآية, ثم قرأ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ وقرأ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وقرأ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ... إلى آخر الآية, وقال: هؤلاء الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ) , فقرأته عامة قرّاء الأمصار (أَذْهَبْتُمْ) بغير استفهام, سوى أبي جعفر القارئ, فإنه قرأه بالاستفهام, والعرب تستفهم بالتوبيخ, وتترك الاستفهام فيه, فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا, وذهبت ففعلت وفعلت. وأعجب القراءتين إليّ ترك الاستفهام فيه, لإجماع الحجة من القرّاء عليه, ولأنه أفصح اللغتين.وقوله ( فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) يقول تعالى ذكره: يقال لهم: فاليوم أيها الكافرون الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا تجزون: أي تثابون عذاب الهون, يعني عذاب الهوان, وذلك عذاب النار الذي يهينهم. كما حدثنا محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( عَذَابَ الْهُونِ ) قال: الهوان ( بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) يقول: بما كنتم تتكبرون في الدنيا على ظهر الأرض على ربكم, فتأبون أن تخلصوا له العبادة, وأن تذعنوا لأمره ونهيه بغير الحقّ, أي بغير ما أباح لكم ربكم, وأذن لكم به ( وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ) يقول: بما كنتم فيها تخالفون طاعته فتعصونه.
﴿ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ﴾