يظن المنافقون أن الأحزاب الذين هزمهم الله تعالى شر هزيمة لم يذهبوا؛ ذلك من شدة الخوف والجبن، ولو عاد الأحزاب إلى "المدينة" لتمنَّى أولئك المنافقون أنهم كانوا غائبين عن "المدينة" بين أعراب البادية، يستخبرون عن أخباركم ويسألون عن أنبائكم، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«يحسبون الأحزاب» من الكفار «لم يذهبوا» إلى مكة لخوفهم منهم «وإن يأت الأحزاب» كرة أخرى «يودُّوا» يتمنوا «لو أنهم بادون في الأعراب» أي كائنون في البادية «يسألون عن أنبائكم» أخباركم مع الكفار «ولو كانوا فيكم» هذه الكرة «ما قاتلوا إلا قليلا» رياءً وخوفا من التعيير.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصحابه، لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ مرة أخرى يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة، ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟فتبًا لهم، وبعدًا، فليسوا ممن يبالى بحضورهم وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( يحسبون ) يعني هؤلاء المنافقين ) ( الأحزاب ) يعني : قريشا وغطفان واليهود ( لم يذهبوا ) لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا ( وإن يأت الأحزاب ) أي : يرجعوا إليه للقتال بعد الذهاب ( يودوا لو أنهم بادون في الأعراب ) أي يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن ، يقال : بدا يبدو بداوة ، إذا خرج إلى البادية ( يسألون عن أنبائكم ) أخباركم وما آل إليه أمركم ، وقرأ يعقوب : " يساءلون " مشددة ممدودة ، أي : يتساءلون ) ( ولو كانوا ) يعني : هؤلاء المنافقين ( فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) تعذيرا ، أي : يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم ، فيقولون قد قاتلنا . قال الكلبي : إلا قليلا أي : رميا بالحجارة . وقال مقاتل : إلا رياء وسمعة من غير احتساب .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم ختم- سبحانه- هذا الحديث الجامع عن صفات المنافقين عند الشدائد والمحن فقال:يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا.أى: أن هؤلاء المنافقين بلغ بهم الجبن والخور، أنهم حتى بعد رحيل الأحزاب عن المدينة، ما زالوا يحسبون ويظنون أنهم لم يذهبوا عنها، فهم يأبون أن يصدقوا أن الله- تعالى- قد رد الذين كفروا بغيظهم دون أن ينالوا خيرا.وفي هذه الجملة ما فيها من التهكم بالمنافقين، حيث وصفتهم بأنهم حتى بعد ذهاب أسباب الخوف، ما زالوا في جبنهم يعيشون.ثم بين- سبحانه- حالهم فيما لو عاد الأحزاب على سبيل الفرض والتقدير فقال:وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ.أى: إلى المدينة مرة ثانية.يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أى: وإن تعد جيوش الأحزاب إلى مهاجمة المدينة مرة ثانية، يتمنى هؤلاء المنافقون، أن يكونوا غائبين عنها، نازلين خارجها مع أهل البوادي من الأعراب، حتى لا يعرضوا أنفسهم للقتال.فقوله: بادُونَ جمع باد وهو ساكن البادية. يقال: بدا القوم بدا، إذا نزحوا من المدن إلى البوادي.والأعراب: جمع أعرابى وهو من يسكن البادية.ثم بين- سبحانه- تلهفهم على سماع الأخبار السيئة عن المؤمنين فقال: يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا.أى: هؤلاء المنافقون يسألون القادمين من المدينة، والذاهبين إليها عن أخباركم- أيها المؤمنون- حتى لكأنهم غير ساكنين فيها.ولو كانوا فيكم عند ما يعود الكافرون إلى المدينة- على سبيل الفرض- ما قاتلوا معكم إلا قتالا قليلا حتى لا ينكشف أمرهم انكشافا تاما. فهم لا يقاتلون عن رغبة، وإنما يقاتلون رياء ومخادعة.وهكذا نجد الآيات الكريمة قد أفاضت في شرح الأحوال القبيحة التي كان عليها المنافقون عند ما هاجمت جيوش الأحزاب المدينة، ووصفتهم بأبشع الصفات وأبغضها إلى كل نفس كريمة، حتى يحذرهم المؤمنون.وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين الأخيار والأشرار، ساقت السورة بعد ذلك صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين، الذين عند ما رأوا جيوش الأحزاب قالوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ والذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه دون أن يبدلوا تبديلا.لنستمع إلى القرآن الكريم وهو يصور لنا موقف المؤمنين في غزوة الأحزاب، كما يحكى جانبا من فضل الله عليهم، ومن لطفه بهم فيقول- سبحانه-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخوف والخور ، ( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ) بل هم قريب منهم ، وإن لهم عودة إليهم ( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ) أي : ويودون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة بل في البادية ، يسألون عن أخباركم ، وما كان من أمركم مع عدوكم ، ( ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ) أي : ولو كانوا بين أظهركم ، لما قاتلوا معكم إلا قليلا; لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا .قوله تعالى : يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي لجبنهم ; يظنون الأحزاب لم ينصرفوا وكانوا انصرفوا ، ولكنهم لم يتباعدوا في السير . ( وإن يأت الأحزاب ) أي وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال . يودوا لو أنهم بادون في الأعراب تمنوا أن يكونوا مع الأعراب حذرا من القتل وتربصا للدوائر . وقرأ طلحة بن مصرف ( لو أنهم بدى في الأعراب ) ; يقال : باد وبدى ; مثل غاز وغزى . ويمد مثل صائم وصوام . بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية . وهي البداوة والبداوة ; بالكسر والفتح . وأصل الكلمة من البدو وهو الظهور . ( يسألون ) وقرأ يعقوب في رواية رويس ( يتساءلون عن أنبائكم ) أي عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم . يتحدثون : أما هلك محمد وأصحابه ، أما غلب أبو سفيان وأحزابه ! أي يودوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم . وقيل : أي هم أبدا لجبنهم يسألون عن أخبار المؤمنين ، وهل أصيبوا . وقيل : كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق ، جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين . ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا أي رميا بالنبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة ; ولو كان ذلك لله لكان قليله كثيرا .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا (20)يقول تعالى ذكره: يحسب هؤلاء المنافقون الأحزاب، وهم قريش وغطفان.كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني يزيد بن رومان (يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا): قريش وغطفان.وقوله: (لَمْ يَذْهَبُوا) يقول: لم ينصرفوا، وإن كانوا قد انصرفوا جبنا وهَلعا منهم.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا) قال: يحسبونهم قريبا.وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله (يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ قَدْ ذَهَبُوا فإذَا وَجَدُوهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا وَدُّوا لَوْ أنَّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ).وقوله: ( وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ ) يقول تعالى ذكره: وإن يأت المؤمنين الأحزاب وهم الجماعة: واحدهم حزب (يَوَدُّوا) يقول: يتمنوا من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفا من القتل. وذلك أن قوله: (لَوْ أنَّهُمْ بادُونَ فِي الأعْرَابِ) تقول: قد بدا فلان إذا صار في البدو فهو يبدو، وهو باد؛ وأما الأعراب: فإنهم جمع أعرابيّ، وواحد العرب عربيّ، وإنما قيل: أعرابيّ لأهل البدو، فرقا بين أهل البوادي والأمصار، فجعل الأعراب لأهل البادية، والعرب لأهل المصر.وقوله: (يَسألُونَ عَنْ أنْبائِكُمْ) يقول: يستخبر هؤلاء المنافقون أيها المؤمنون الناس عن أنبائكم، يعني: عن أخباركم بالبادية، هل هلك محمد وأصحابه؟ نقول: يتمنون أن يسمعوا أخباركم بهلاككم، ألا يشهدوا معكم مشاهدكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إلا قَلِيلا) يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ولو كانوا أيضا فيكم ما نفعوكم، وما قاتلوا المشركين إلا قليلا يقول: إلا تعذيرا، لأنهم لا يقاتلونهم حسبة ولا رجاء ثواب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (يَسألونَ عَنْ أنْبائِكُمْ) قال: أخباركم، وقرأت قرّاء الأمصار جميعا سوى عاصم الجحدري (يَسألونَ عَنْ أنْبائِكُمْ) بمعنى: يسألون من قدم عليهم من الناس عن أنباء عسكركم وأخباركم، وذكر عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ ذلك (يَسّاءَلونَ) بتشديد السين، بمعنى: يتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضا عن ذلك.والصواب من القول في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء عليه.
﴿ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ﴾