الله وحده هو الذي جعل لكم الأرض سهلة ممهدة تستقرون عليها، فامشوا في نواحيها وجوانبها، وكلوا من رزق الله الذي يخرجه لكم منها، وإليه وحده البعث من قبوركم للحساب والجزاء. وفي الآية إيماء إلى طلب الرزق والمكاسب، وفيها دلالة على أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له، وعلى قدرته، والتذكير بنعمه، والتحذير من الركون إلى الدنيا.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا» سهلة للمشي فيها «فامشوا في مناكبها» جوانبها «وكلوا من رزقه» المخلوق لأجلكم «وإليه النشور» من القبور للجزاء.
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: هو الذي سخر لكم الأرض وذللها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا أي: لطلب الرزق والمكاسب. وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة، تبعثون بعد موتكم، وتحشرون إلى الله، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) سهلا لا يمتنع المشي فيها بالحزونة ( فامشوا في مناكبها ) قال ابن عباس وقتادة : في جبالها . وقال الضحاك : في آكامها . وقال مجاهد : في طرقها وفجاجها . قال الحسن : في سبلها . وقال الكلبي : في أطرافها . وقال مقاتل : في نواحيها . قال الفراء : في جوانبها والأصل في الكلمة الجانب ، ومنه منكب الرجل والريح النكباء وتنكب فلان [ أي جانب ] ( وكلوا من رزقه ) مما خلقه رزقا لكم في الأرض . ( وإليه النشور ) أي : وإليه تبعثون من قبوركم .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم ذكر- سبحانه- جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.والذلول: السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها من مشى عليها، أو غرس فيها، أو بناء فوقها.. من الذّل وهو سهولة الانقياد للغير، ومنه قوله- تعالى-: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ.. أى: غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض..والأمر في قوله فَامْشُوا فِي مَناكِبِها للإباحة، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا: جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها..وهو مثل لفرط التذليل، وشدة التسخير..أى: هو- سبحانه- الذي جعل لكم- بفضله ورحمته- الأرض المتسعة الأرجاء.مذللة مسخرة لكم، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشي عليها، أو البناء فوقها. أو غرس النبات فيها..ومادام الأمر كذلك فامشوا في جوانبها وأطرافها وفجاجها.. ملتمسين رزق ربكم فيها، وداوموا على ذلك، ففي الحديث الشريف: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» .والمراد بقوله: وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الانتفاع بما فيها من وجوه النعم، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع.فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكي ينتفعوا بما في الأرض من كنوز، حتى يستغنوا عن غيرهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم.. فإنه بقدر تقصيرهم في استخراج كنوزها، تكون حاجتهم لغيرهم.قال بعض العلماء: قال الإمام النووي في مقدمة المجموع: إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة، لتستغنى عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج..وقد أعطى الله- تعالى- العالم الإسلامى الأولوية في هذا كله. فعليهم أن يحتلوا مكانهم، ويحافظوا على مكانتهم، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا.. .وقد أفاض بعض العلماء في بيان معنى قوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ... فقال ما ملخصه: والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة استقرارهم عليها.. ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها. والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة، ويبصرهم بها، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد، وكل جيل، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول..والله- تعالى- جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها.. ومن حيث سطحها..ومن حيث تكوينها، ومن حيث إحاطة الهواء بها.. ومن حيث حجمها.. .وقوله: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ معطوف على ما قبله، لبيان أن مصيرهم إليه- تعالى- بعد قضائهم في الأرض المذللة لهم، مدة حياتهم..أى: وإليه وحده مرجعكم، وبعثكم من قبوركم، بعد أن قضيتم على هذه الأرض، الأجل الذي قدره- سبحانه- لكم.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض ، وتذليله إياها لهم ، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال ، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيأها فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار ، فقال : ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها ) أي : فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات ، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئا ، إلا أن ييسره الله لكم ; ولهذا قال : ( وكلوا من رزقه ) فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما قال الإمام أحمد :حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، أخبرني بكر بن عمرو أنه سمع عبد الله بن هبيرة يقول : إنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : إنه سمع عمر بن الخطاب يقول : إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " .رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث ابن هبيرة وقال الترمذي : حسن صحيح . فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق ، مع توكلها على الله ، عز وجل ، وهو المسخر المسير المسبب . ) وإليه النشور ) أي : المرجع يوم القيامة .قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي : ( مناكبها ) أطرافها ، وفجاجها ، ونواحيها . وقال ابن عباس ، وقتادة : ( مناكبها ) الجبال .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن بشير بن كعب : أنه قرأ هذه الآية : ( فامشوا في مناكبها ) فقال لأم ولد له : إن علمت ) مناكبها ) فأنت عتيقة . فقالت : هي الجبال . فسأل أبا الدرداء فقال : هي الجبال .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشورقوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا أي سهلة تستقرون عليها . والذلول المنقاد الذي يذل لك والمصدر الذل وهو اللين والانقياد . أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة . وقيل : أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ; ولو كانت تتكفأ متمائلة لما كانت منقادة لنا . وقيل : أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار .فامشوا في مناكبها هو أمر إباحة ، وفيه إظهار الامتنان . وقيل : هو خبر بلفظ الأمر ; أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها . وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب : في مناكبها في جبالها . وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة ؟ فقالت : مناكبها جبالها . فصارت حرة ، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . مجاهد : في أطرافها . وعنه أيضا : في طرقها وفجاجها . وقاله السدي والحسن . وقال الكلبي : في جوانبها . ومنكبا الرجل : جانباه . وأصل المنكب الجانب ; ومنه منكب الرجل . والريح النكباء . وتنكب فلان عن فلان . يقول : امشوا حيث أردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع . وحكى قتادة عن أبي الجلد أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ ; فللسودان اثنا عشر ألفا ، وللروم ثمانية آلاف ، وللفرس ثلاثة آلاف ، وللعرب ألف .وكلوا من رزقه أي مما أحله لكم ; قاله الحسن . وقيل : مما أتيته لكم .وإليه النشور المرجع . وقيل : معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها ، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا )يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل لكم الأرض ذَلُولا سَهْلا سَهَّلها لكم (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ).اختلف أهل العلم في معنى (مَنَاكِبِهَا ) فقال بعضهم: مناكبها: جبالها.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (فِي مَنَاكِبِهَا ) يقول: جبالها.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه الآية (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) فقال لجارية له: إن دَريْت ما مناكبها، فأنت حرة لوجه الله ؛ قالت: فإن مناكبها: جبالها، فكأنما سُفِع في وجهه، ورغب في جاريته، فسأل، منهم من أمره، ومنهم من نهاه، فسأل أبا الدرداء، فقال: الخير في طمأنينة، والشرّ في ريبة، فَذرْ ما يريبك إلى ما لا يريبك.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، عن قتادة، عن بشير بن كعب، بمثله سواء.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) : جبالها.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فِي مَنَاكِبِهَا ) قال: في جبالها.وقال آخرون: (مَنَاكِبِهَا ) : أطرافها ونواحيها.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) يقول: امشوا في أطرافها.حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة، أن بشير بن كعب العدويّ، قرأ هذه الآية (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) فقال لجاريته: إن أخبرتني ما مناكبها، فأنت حرّة، فقالت: نواحيها ؛ فأراد أن يتزوّجها، فسأل أبا الدرداء، فقال: إن الخير في طمأنينة، وإن الشرّ في ريبة، فدع ما يَريبك إلى ما لا يريبك.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) قال: طرقها وفجاجها.وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فامشوا في نواحيها وجوانبها، وذلك أن نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه.وقوله: (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) يقول: وكلوا من رزق الله الذي أخرجه لكم من مناكب الأرض، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) يقول تعالى ذكره: وإلى الله نشركم من قبوركم.
﴿ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾