وما تفرَّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا شيعًا وأحزابًا إلا مِن بعد ما جاءهم العلم وقامت الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد، ولولا كلمة سبقت من ربك -أيها الرسول- بتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، لقضي بينهم بتعجيل عذاب الكافرين منهم. وإن الذين أورثوا التوراة والإنجيل من بعد هؤلاء المختلفين في الحق لفي شك من الدين والإيمان موقعٍ في الريبة والاختلاف المذموم.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وما تفرَّقوا» أي أهل الأديان في الدين بأن وحد بعض وكفر بعض «إلا من بعد ما جاءهم العلم» بالتوحيد «بغياً» من الكافرين «بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك» بتأخير الجزاء «إلى أجل مسمى» يوم القيامة «لقضي بينهم» بتعذيب الكافرين في الدنيا «وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم» وهم اليهود والنصارى «لفي شك منه» من محمد صلى الله عليه وسلم «مريب» موقع في الريبة.
﴿ تفسير السعدي ﴾
لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم، ونهاهم عن التفرق، أخبرهمأنكم لا تغتروا بما أنزل الله عليكم من الكتاب، فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع، ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم، فإنهم تباغضوا وتحاسدوا، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة، فوقع الاختلاف، فاحذروا أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم. وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي: بتأخير العذاب القاضي إلى أجل مسمى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ولكن حكمته وحلمه، اقتضى تأخير ذلك عنهم. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: الذين ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي: لفي اشتباه كثير يوقع في الاختلاف، حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا، فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا، والجميع مشتركون في الاختلاف المذموم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( وما تفرقوا ) يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني أهل الكتاب كما ذكر في سورة المنفكين . ( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك ، ( بغيا بينهم ) أي : للبغي ، قال عطاء : يعني بغيا بينهم على محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) في تأخير العذاب عنهم ، ( إلى أجل مسمى ) وهو يوم القيامة ، ( لقضي بينهم ) بين من آمن وكفر ، يعني أنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا ، ( وإن الذين أورثوا الكتاب ) يعني اليهود والنصارى ، ( من بعدهم ) من بعد أنبيائهم ، وقيل : من بعد الأمم الخالية . وقال قتادة : معناه من قبلهم أي : من قبل مشركي مكة . ( لفي شك منه مريب ) أي : من محمد - صلى الله عليه وسلم - .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي أدت إلى اختلاف المختلفين في أمر الدين، وإلى تفرقهم شيعا وأحزابا فقال. وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال والضمير في قوله تَفَرَّقُوا يعود على كل الذين اختلفوا على أنبيائهم، وأعرضوا عن دعوتهم.وقوله بَغْياً مفعول لأجله، مبين السبب الحقيقي للتفرق والاختلاف.أى: وما تفرق المتفرقون في أمر الدين. وأعرضوا عما جاءتهم به رسلهم، في كل زمان ومكان، إلا من بعد أن علموا الحق، ووصل إليهم عن طريق أنبيائهم، ولم يحملهم على هذا التفرق والاختلاف إلا البغي الذي استولى على نفوسهم، والحسد لرسل الله- تعالى- على ما آتاهم الله من فضله.فقوله- تعالى-: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادة في ذمهم، فإن الاختلاف بعد العلم، أدعى إلى الذم والتحقير، لأنه يدل على أن هذا الاختلاف لم يكن عن جهل، وإنما كان عن علم وإصرار على الباطل.وقوله- تعالى- بَغْياً بَيْنَهُمْ زيادة أخرى تحمل كل عاقل على احتقارهم ونبذهم، لأن هذه الجملة الكريمة تدل على أن اختلافهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق، وإنما كان الدافع إليه، البغي والحسد والعناد.أى: أن اختلافهم على أنبيائهم كان الدافع إليه الظلم وتجاوز الحد، والحرص على شهوات الدنيا ولذائذها، والخوف على ضياع شيء منها من بين أيديهم.ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله ورحمته بهذه الأمة فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.والمراد بهذه الكلمة: ما وعد الله- تعالى-: نبيه صلّى الله عليه وسلّم من أنه لن يهلك أمته بعذاب يستأصل شأفتهم، كما أهلك قوم نوح وغيرهم، ومن أنه- تعالى- سيؤخر عذابهم إلى الوقت الذي يختاره ويشاؤه- سبحانه-.أى: ولولا كلمة سبقت من ربك- أيها الرسول الكريم-، بعدم إهلاكهم بعقوبة تستأصل شأفتهم، وبتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى في علمه- تعالى- لقضى بينهم بقطع دابرهم بسبب هذا الاختلاف الذي أدى بهم إلى الإعراض عن دعوتك، وإلى عكوفهم على كفرهم.وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ وهم أهل الكتاب المعاصرين لك من اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِهِمْ أى: من بعد الذين سبقوهم في الاختلاف على أنبيائهم.لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أى: لفي شك من هذا القرآن. ومن كل ما جئتهم به من عند ربك، هذا الشك أوقعهم في الريبة وقلق النفس واضطرابها وتذبذبها، ولذلك لم يؤمنوا بما جئتهم به من عند ربك.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ) أي : إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقة .ثم قال [ الله ] تعالى : ( ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى ) أي : لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد ، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعا .وقوله : ( وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ) يعني : الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق ( لفي شك منه مريب ) أي : ليسوا على يقين من أمرهم ، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم ، بلا دليل ولا برهان ، وهم في حيرة من أمرهم ، وشك مريب ، وشقاق بعيد .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
( وما تفرقوا ) قال ابن عباس : يعني قريشا . ( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ؛ دليله قوله تعالى في سورة فاطر : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير يريد نبيا . وقال في سورة البقرة : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) على ما تقدم بيانه هناك . وقيل : أمم الأنبياء المتقدمين ، فإنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى ، فآمن قوم وكفر قوم . وقال ابن عباس أيضا : يعني أهل الكتاب ، دليله في سورة المنفكين : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . فالمشركون قالوا : لم خص بالنبوة! واليهود حسدوه لما بعث ، وكذا النصارى . ( بغيهم بينهم ) أي : بغيا من بعضهم على بعض طلبا للرياسة ، فليس تفرقهم لقصور في البيان والحجج ، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا . ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العقاب عن هؤلاء . إلى أجل مسمى قيل : القيامة ، لقوله تعالى : بل الساعة موعدهم . وقيل : إلى الأجل الذي قضي فيه بعذابهم . ( لقضي بينهم ) أي : بين من آمن وبين من كفر بنزول العذاب . وإن الذين أورثوا الكتاب يريد اليهود والنصارى . من بعدهم أي : من بعد المختلفين في الحق . لفي شك منه مريب من الذي أوصى به الأنبياء . والكتاب هنا التوراة والإنجيل . وقيل : إن الذين أورثوا الكتاب قريش . من بعدهم من بعد اليهود والنصارى . لفي شك من القرآن أو من محمد . وقال مجاهد : معنى من بعدهم من قبلهم ، يعني من قبل مشركي مكة ، وهم اليهود والنصارى .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)يقول تعالى ذكره: وما تفرّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزابا, إلا من بعد ما جاءهم العلم, بأن الذي أمرهم الله به, وبعث به نوحا, هو إقامة الدين الحقّ, وأن لا تتفرّقوا فيه.حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة ( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ) فقال: إياكم والفرقة فإنها هلكة ( بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) يقول: بغيا من بعضكم على بعض وحسدا وعداوة على طلب الدنيا.( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول جلّ ثناؤه: ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب, ولكنه أخر ذلك إلى أجل مسمى, وذلك الأجل المسمى فيما ذُكر: يوم القيامة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال: يوم القيامة.وقوله: ( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) يقول: لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحق الذي بعث به نبيه نوحا من بعد علمهم به, بإهلاكه أهل الباطل منهم, وإظهاره أهل الحقّ عليهم.وقوله: ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) يقول: وإن الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل.( لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) يقول: لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحا, وأوحاه إليك يا محمد, وأمركما بإقامته مريب.وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, قوله: ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) قال: اليهود والنصارى.
﴿ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ﴾