ومن القوم الذين حول (المدينة) أعراب منافقون، ومن أهل (المدينة) منافقون أقاموا على النفاق، وازدادوا فيه طغيانًا، بحيث يخفى عليك -أيها الرسول- أمرهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين: بالقتل والسبي والفضيحة في الدنيا، وبعذاب القبر بعد الموت، ثم يُرَدُّون يوم القيامة إلى عذاب عظيم في نار جهنم.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وممن حولكم» يا أهل المدينة «من الأعراب منافقون» كأسلم وأشجع وغفار «ومن أهل المدينة» منافقون أيضا «مردوا على النفاق» لُّجوا فيه واستمروا «لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين» بالفضيحة أو القتل في الدنيا وعذاب القبر «ثم يردون» في الآخرة «إلى عذاب عظيم» هو النار.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يقول تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أيضًا منافقون مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ أي: تمرنوا عليه، واستمروا وازدادوا فيه طغيانا.لَا تَعْلَمُهُمْ بأعيانهم فتعاقبهم، أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم، لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة.نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ يحتمل أن التثنية على بابها، وأن عذابهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة.ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ، والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر، وفي الآخرة عذاب النار وبئس القرار.ويحتمل أن المراد سنغلظ عليهم العذاب، ونضاعفه عليهم ونكرره.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ) وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، كانت منازلهم حول المدينة ، يقول : من هؤلاء الأعراب منافقون ، ( ومن أهل المدينة ) أي : ومن أهل المدينة من الأوس والخزرج قوم منافقون ، ( مردوا على النفاق ) أي : مرنوا على النفاق ، يقال : تمرد فلان على ربه أي : عتا ، ومرد على معصيته ، أي : مرن وثبت عليها واعتادها . ومنه : المريد والمارد . قال ابن إسحاق : لجوا فيه وأبوا غيره .وقال ابن زيد : أقاموا عليه ولم يتوبوا .( لا تعلمهم ) أنت يا محمد ، ( نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ) اختلفوا في هذين العذابين .قال الكلبي والسدي : قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : " اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان . أخرج ناسا من المسجد وفضحهم ، فهذا هو العذاب الأول . والثاني : عذاب القبر " .وقال مجاهد : الأول : القتل والسبي ، والثاني : عذاب القبر . وعنه رواية أخرى : عذبوا بالجوع مرتين .وقال قتادة : الدبيلة في الدنيا وعذاب القبر .وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا ، والأخرى عذاب الآخرة .وعن ابن عباس : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر .وقال ابن إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبة ثم عذاب القبر .وقيل : إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، والأخرى عذاب القبر .وقيل : الأولى إحراق مسجدهم ، مسجد الضرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنم . ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) أي : إلى عذاب جهنم يخلدون فيه .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
قال القرطبي: ومعنى: «مردوا على النفاق» أقاموا عليه ولم يتوبوا منه، أو لجوا فيه وأبوا غيره وأصل الكلمة من اللين والملاسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء أى لا نبت فيها، وغصن أمرد. أى: لا ورق له ... ويقال: مرد يمرد مرودا ومرادة» .والمعنى: اذكروا أيها المؤمنون أنه يسكن من حول مدينتكم قوم من الأعراب منافقون، فاحترسوا منهم، واحترسوا- أيضا- من قوم آخرين يسكنون معكم داخل المدينة، مردوا على النفاق، أى: مرنوا عليه، وأجادوا فنونه، حتى بلغوا فيه الغاية.قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد بالموصول. في قوله «وممن حولكم» . قبائل: جهينة، ومزينة وأشجع، وأسلم ... وكانت منازلهم حول المدينة وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين.واستشكل ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مدح بعض هذه القبائل ودعا لبعضها فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أنه قال: «قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع وأسلم، وغفار، موالي الله- تعالى- ورسوله لا والى لهم غيره» .وأجيب ذلك باعتبار الأغلب منهم .وقوله: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ بيان لتمردهم في النفاق وتمهرهم فيه.أى: أنت أيها الرسول الكريم. لا تعرف هؤلاء المنافقين. مع كمال فطنتك، وصدق فراستك لأنك تعامل الناس بظواهرهم، وهم قد أجادوا النفاق وحذقوه، واجتهدوا في الظهور بمظهر المؤمنين، أما نحن فإننا نعلمهم لأننا لا يخفى علينا شيء من ظواهرهم أو بواطنهم..» .قال الإمام ابن كثير: وقوله تعالى لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ لا ينافي قوله تعالى وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ... لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء.وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال: «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: «إن في أصحابى منافقين» : ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين بما لا صحة له من الكلام، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم.ثم قال: وقد تقدم في تفسير قوله- تعالى- وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أنه صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا. وهذا تخصيص لا يقتضى أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم.وروى الحافظ بن عساكر عن أبى الدرداء، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان ها هنا وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق ها هنا وأشار بيده إلى قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وارزقه حبى، وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير» .فقال الرجل يا رسول الله: إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ فقال: صلى الله عليه وسلم: «ومن أتانا استغفرنا له، ومن أصر فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد سترا» .وقال الآلوسى. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى معرفة الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها، فقد أخرج عبد الرازق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة: أنه قال:ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون: فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدرى. لعمري لأنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي. فقد قال نوح عليه السلام «وما علمي بما كانوا يعملون» وقال شعيب عليه السلام «وما أنا عليكم بحفيظ» ، وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب، وتجرد النفس عن الشواغل.ثم قال: والجملة الكريمة «لا تعلمهم نحن نعلمهم» تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أى: لا يقف على سرائرهم المذكورة فيهم، إلا من لا تخفى عليه خافية، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص .وقوله: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وعيد لهم بسوء المصير في الدنيا والآخرة.أى: هؤلاء المنافقون الذين مردوا على النفاق، سنعذبهم في الدنيا مرتين، مرة عن طريق فضحيتهم وهتك أستارهم وجعلهم يعيشون في قلق وهم دائم، والأخرى عن طريق ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم وما يتبع ذلك من عذابهم في قبورهم إلى أن تقوم الساعة، فيجدون العذاب الأكبر الذي عبر عنه- سبحانه- بقوله ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ.أى: ثم يعودون ويرجعون إلى خالقهم- سبحانه- يوم القيامة فيعذبهم عذابا عظيما بسبب إصرارهم على النفاق، ورسوخهم في المكر والخداع.قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، كما في قوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ أى: كرة بعد أخرى .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يخبر تعالى رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقين ، وفي أهل المدينة أيضا منافقون ( مردوا على النفاق ) أي : مرنوا واستمروا عليه : ومنه يقال : شيطان مريد ومارد ، ويقال : تمرد فلان على الله ، أي : عتا وتجبر .وقوله : ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) لا ينافي قوله تعالى : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) الآية [ محمد : 30 ] ؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين . وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء ، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال :حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن رجل ، عن جبير بن مطعم ، رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب " وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال : " إن في أصحابي منافقين "ومعناه : أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم . وتقدم في تفسير قوله : ( وهموا بما لم ينالوا ) [ التوبة : 74 ] أنه عليه السلام أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا ، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم ، والله أعلم .وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " أبي عمر البيروتي " من طريق هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا بن جابر ، حدثني شيخ بيروت يكنى أبا عمر ، أظنه حدثني عن أبي الدرداء ؛ أن رجلا يقال له " حرملة " أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى لسانه - والنفاق هاهنا - وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبي ، وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير " . فقال : يا رسول الله ، إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : " من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر على دينه فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا " قال : وكذا رواه أبو أحمد الحاكم ، عن أبي بكر الباغندي ، عن هشام بن عمار ، به .وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في هذه الآية أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ؟ فلان في الجنة وفلان في النار . فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري ! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك . قال نبي الله نوح : ( قال وما علمي بما كانوا يعملون ) [ الشعراء : 112 ] وقال نبي الله شعيب : ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) [ هود : 86 ] وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) .وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : " اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، واخرج يا فلان فإنك منافق " . فأخرج من المسجد ناسا منهم ، فضحهم . فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ، ظنوا أنه قد علم بأمرهم . فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر ، قد فضح الله المنافقين اليوم . قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني عذاب القبروكذا قال الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك نحو هذا .وقال مجاهد في قوله : ( سنعذبهم مرتين ) يعني : القتل والسباء وقال - في رواية - بالجوع ، وعذاب القبر ، ( ثم يردون إلى عذاب عظيم )وقال ابن جريج : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب النار .وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا ، وعذاب في القبروقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قول الله ( فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ) [ التوبة : 85 ] فهذه المصائب لهم عذاب ، وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) قال : النار .وقال محمد بن إسحاق : ( سنعذبهم مرتين ) قال : هو - فيما بلغني - ما هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه ، عذاب الآخرة والخلد فيه .وقال سعيد ، عن قتادة في قوله : ( سنعذبهم مرتين ) عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ( ثم يردون إلى عذاب عظيم ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين ، فقال : " ستة منهم تكفيكهم الدبيلة : سراج من نار جهنم ، يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتا " . وذكر لنا أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة ، فإن صلى عليه وإلا تركه . وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة : أنشدك بالله ، أمنهم أنا ؟ قال : لا . ولا أومن منها أحدا بعدك .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيمقوله تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ابتداء وخبر . أي قوم منافقون ; يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفارا وأشجع .ومن أهل المدينة مردوا على النفاق أي قوم مردوا على النفاق . وقيل : ( مردوا ) من نعت المنافقين ; فيكون في الكلام تقديم وتأخير ، المعنى . ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق ، ومن أهل المدينة مثل ذلك . ومعنى : " مردوا " أقاموا ولم يتوبوا ; عن ابن زيد . وقال غيره : لجوا فيه وأبوا غيره ; والمعنى متقارب . وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد . فكأنهم تجردوا للنفاق . ومنه رملة مرداء لا نبت فيها . وغصن أمرد لا ورق عليه . وفرس أمرد لا شعر على ثنته . وغلام أمرد بين المرد ; ولا يقال : جارية مرداء . وتمريد البناء تمليسه ; ومنه قوله : صرح ممرد . وتمريد الغصن تجريده من الورق ; يقال : مرد يمرد مرودا ومرادة .قوله تعالى لا تعلمهم نحن نعلمهم هو مثل قوله : لا تعلمونهم الله يعلمهم على ما تقدم . وقيل : المعنى لا تعلم يا محمد عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها ; وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار .قوله تعالى سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم قال ابن عباس : بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة . فمرض المؤمن كفارة ، ومرض الكافر عقوبة . وقيل : العذاب الأول الفضيحة باطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ; على ما يأتي بيانه في المنافقين . والعذاب الثاني عذاب القبر . الحسن وقتادة : عذاب الدنيا وعذاب القبر . ابن زيد : الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم ، والثاني عذاب القبر . مجاهد : الجوع والقتل . الفراء : القتل وعذاب القبر . وقيل : السباء والقتل . وقيل : الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم ، والثاني عذاب القبر . وقيل : أحد العذابين ما قال تعالى : فلا تعجبك أموالهم إلى قوله إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا . والغرض من الآية اتباع العذاب ، أو تضعيف العذاب عليهم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون, ومن أهل مدينتكم أيضًا أمثالهم أقوامٌ منافقون.* * *وقوله: (مردوا على النفاق)، يقول: مرَنُوا عليه ودَرِبوا به.* * *ومنه: " شيطانٌ مارد، ومَرِيد "، وهو الخبيث العاتي. ومنه قيل: " تمرَّد فلان على ربه "، أي: عتَا، ومرنَ على معصيته واعتادها. (12)* * *وقال ابن زيد في ذلك ما: -17119- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)، قال: أقاموا عليه، لم يتوبوا كما تابَ الآخرون.17120- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)، أي لجُّوا فيه، وأبوْا غيرَه. (13)* * *=(لا تعلمهم)، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة, ولكنا نحن نعلمهم، كما: -17121- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون)، إلى قوله: (نحن نعلمهم)، قال: فما بال أقوام يتكلَّفون علم الناس؟ فلانٌ في الجنة وفلان في النار! فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري ! لعمري أنتَ بنفسك أعلم منك بأعمال الناس, ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك ! قال نبي الله نوح عليه السلام: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ،, [سورة الشعراء: 112]، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [سورة هود: 86]، وقال الله لنبيه عليه السلام: (لا تعلمهم نحن نعلمهم).* * *وقوله: (سنعذبهم مرتين)، يقول: سنعذب هؤلاء المنافقين مرتين، إحداهما في الدنيا, والأخرى في القبر.* * *ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا، ما هي؟فقال بعضهم: هي فضيحتهم، فضحهم الله بكشف أمورهم، وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.* * ** ذكر من قال ذلك:17122- حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي مالك, عن ابن عباس في قول الله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)، إلى قوله: (عذاب عظيم)، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا يوم الجمعة, فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق. اخرج، يا فلان، فإنك منافق. فأخرج من المسجد ناسًا منهم، فضحهم. فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياءً أنه لم يشهد الجمعة, وظنّ أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر, ظنّوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد, فإذا الناس لم يصلُّوا, فقال له رجل من المسلمين: أبشر، يا عمر, فقد فضح الله المنافقين اليوم ! فهذا العذاب الأول، حين أخرجهم من المسجد. والعذاب الثاني، عذاب القبر. (14)17123- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: (سنعذبهم مرتين)، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيذكر المنافقين، فيعذبهم بلسانه, قال: وعذاب القبر.* * *[وقال آخرون: ما يصيبهم من السبي والقتل والجوع والخوف في الدنيا.] (15)* * *ذكر من قال ذلك:17124- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين)، قال: القتل والسِّبَاء.17125- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين)، بالجوع, وعذاب القبر. قال: (ثم يردون إلى عذاب عظيم)، يوم القيامة.17126- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون، والقاسم، ويحيى بن آدم, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: (سنعذبهم مرتين)، قال: بالجوع والقتل = وقال يحيى: الخوف والقتل. (16)17127- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: بالجوع والقتل.17128- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: (سنعذبهم مرتين)، قال: بالجوع, وعذاب القبر.17129- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين)، قال: الجوع والقتل. (17)* * *وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذبهم عذابًا في الدنيا، وعذابًا في الآخرة.* ذكر من قال ذلك:17130- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: (سنعذبهم مرتين)، عذاب الدنيا، وعذاب القبر، (ثم يردون إلى عذاب عظيم)، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين, فقال: " ستة منهم تكفيكَهم الدُّبيلة, (18) سِراج من نار جهنم، يأخذ في كتف أحدهم حتى تُفضي إلى صدره, وستة يموتون موتًا " . ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله، كان إذا مات رجل يرى أنه منهم، نظر إلى حذيفة, فإن صلى عليه، وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشُدُك الله، أمنهم أنا؟ قال: لا والله, ولا أومِن منها أحدًا بعدك !17131- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: (سنعذبهم مرتين)، قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر.17132- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء قالا حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة, عن قتادة: (سنعذبهم مرتين)، قال: عذابًا في الدنيا، وعذابًا في القبر.17133- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، = ثم يردّون إلى عذاب النار.* * *وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرتين، مصائبَهم في أموالهم وأولادهم, والمرة الأخرى في جهنم.* ذكر من قال ذلك:17134- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (سنعذبهم مرتين)، قال: أما عذابٌ في الدنيا، فالأموال والأولاد, وقرأ قول الله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، [سورة التوبة: 55]، بالمصائب فيهم, هي لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الآخرة، في النار =(ثم يردون إلى عذاب عظيم)، قال: النار.* * *وقال آخرون: بل إحدى المرتين، الحدود, والأخرى: عذابُ القبر.ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرتضًى. (19)* * *وقال آخرون: بل إحدى المرتين، أخذ الزكاة من أموالهم, والأخرى عذابُ القبر. ذكر ذلك عن سليمان بن أرقم, عن الحسن.* * *وقال آخرون: بل إحدى المرتين، عذابُهم بما يدخل عليهم من الغَيْظِ في أمر الإسلام.* ذكر من قال ذلك:17135- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (سنعذبهم مرتين)، قال: العذاب الذي وعدَهم مرتين، فيما بلغني، غَمُّهم بما هم فيه من أمر الإسلام، (20) وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حِسْبة, ثم عذابهم في القبر إذا صاروا إليه, ثم العذاب العظيم الذي يردُّون إليه، عذابُ الآخرة، (21) والخُلْد فيه. (22)* * *قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذِّب هؤلاء الذين مرَدوا على النفاق مرتين, ولم يضع لنا دليلا يوصِّل به إلى علم صفة ذينك العذابين (23) = وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس عندنا علم بأيِّ ذلك من أيٍّ. (24) غير أن في قوله جل ثناؤه: (ثم يردّون إلى عذاب عظيم)، دلالة على أن العذاب في المرَّتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر.* * *وقوله: (ثم يردون إلى عذاب عظيم)، يقول: ثم يردُّ هؤلاء المنافقون، بعد تعذيب الله إياهم مرتين، إلى عذاب عظيم, وذلك عذاب جهنم.-------------------الهوامش :(12) انظر تفسير " مريد " فيما سلف 9 : 211 ، 212 ، وفي المطبوعة : " أي : عتا ومرد على معصيته . . . " ، والصواب ما في المخطوطة .(13) الأثر : 17120 - سيرة ابن هشام 4 : 198 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17089 .(14) الأثر : 17122 - رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 33 ، وقال : " رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، وهو ضعيف " .(15) هذه الترجمة التي بين القوسين ، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة ، استظهرتها من سياق الأخبار التالية .(16) في المطبوعة : " بالجوع . . . " ، بالباء في أوله ، وأثبت ما في المخطوطة .(17) في المطبوعة : " بالجوع " ، وأثبت ما في المخطوطة .(18) " الدبيلة " في اللغة ، خراج ودمل كبير ، تظهر في الجوف ، فتقتل صاحبها غالبا ، وهي تصغير " دبلة " ( بضم الدال وسكون الباء ) ، بمثل معناها .(19) في المطبوعة : " غير مرضي " . وأثبت ما في المخطوطة .(20) في المطبوعة والمخطوطة : " فيما بلغني عنهم ما هم فيه أمر الإسلام " ، والصواب من سيرة ابن هشام .(21) في المطبوعة : " ويخلدون فيه " ، وفي المخطوطة : " ويخلد فيه " ، وصواب قراءتها من سيرة ابن هشام .(22) الأثر : 17135 - سيرة ابن هشام 4 : 198 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 17120 .(23) في المطبوعة : " نتوصل به " ، وأثبت ما في المخطوطة .(24) في المطبوعة : " بأي ذلك من بأي ، على أن في قوله . . . " ، فحرف وبدل وأفسد الكلام إفسادًا .وانظر القول في " أي ذلك كان من أي " فيما سلف ص : 365 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك ، فقد مضت أخواتها كثيرًا ، وحرفها الناسخ .
﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾